أيضاً، كان من بيئة الاتفاق الإيراني-السعودي هو التنسيق بين الرياض وموسكو في «أوبك+» لرفع أسعار النفط، والذي دفع بايدن لمهاجمة السعودية بالخريف الماضي علناً. وكذلك كان من بنية وعناصر هذه البيئة هو تغيير السعودية لسياستها العامة في الأزمة السورية، والذي هو في الواقع قد بدأ عام 2017 عندما تم إبلاغ معارضين سوريين بأن الرياض ستركز على الموضوع اليمني وأن هناك نأياً سعودياً عن الموضوع السوري، ثم ترجم هذا بالعامين الماضيين عندما دعمت الرياض، ولو من الخلف مبادرات إماراتية-أردنية-مصرية-جزائرية، التطبيع مع السلطة السورية، وهو ما أعطى إشارات سعودية ودية تجاه طهران وكذلك موسكو. ثم كان من هذه العناصر لبيئة الاتفاق زيارة الرئيس الصيني للرياض العام الماضي والتي كانت أنجح من زيارة للسعودية قبل أشهر قام بها الرئيس الأميركي.
هو اتفاق نوايا يجب انتظار ترجمتها في ملفات متعددة أولها اليمن، حيث طهران والرياض هما اللاعبان الكبيران هناك، وهو شيء غير موجود في الأزمة اللبنانية
هنا، يبدو أن ولي العهد السعودي كان يفكر جدياً في كلام قاله هو ولمّح له بعد قليل من أزمة خاشقجي بأن السعودية تملك خيارات وأبواباً عدة غير الباب الأميركي الذي ظن الأميركان منذ عام 1945 مع لقاء الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود في السويس، بأن السعودية هي «بئر نفطي أميركي» والأسرة السعودية المالكة هي «الحارس له» مقابل «ضمانة أميركية بحماية الأسرة واستمرارها».
إذا أتينا إلى عوامل تدفع إيران إلى هذا الاتفاق مع الرياض، فيجب التسجيل، هنا في أولها، واقعة فشل وانهيار مفاوضات فيينا في آب الماضي عندما رفضت طهران صيغة الوسيط الأوروبي جوزيب بوريل والتي سمّاها بـ«الصيغة النهائية» من أجل إحياء الاتفاق النووي، فيما وافقت واشنطن. ثم رأينا بعد ذلك كيف زاد التعاون العسكري الإيراني-الروسي وأيضاً كيف تعمّقت العلاقات الاقتصادية بين طهران وبكين، في ظرف دولي أنشأته وربما أعلنته الحرب الأوكرانية عن انقسام عالمي جديد سمّاه أخيراً وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بأنه «انتهاء لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وبدء منافسة عالمية»، أصبح فيه التحالف الصيني-الروسي في مواجهة تحالف حلف الأطلسي-اليابان-كوريا الجنوبية-أستراليا. يمكن هنا قراءة دوافع صيغة بوريل «النهائية» بأنها دفع لطهران للزاوية الضيقة من أجل إجبارها على الاتفاق في ظرف الحرب الأوكرانية فيما يبدو أن الرفض الإيراني قد أتى من قراءة في طهران بأن مجالات المناورة الإيرانية قد أصبحت أوسع مع تلك الحرب الأوكرانية وأن الجو العالمي يتيح ذلك.
هنا، يمكن قراءة الاتفاق الإيراني-السعودي بأنه أحد ترجمات المجالات الأوسع التي أصبحت عليها مجالات المناورة الإيرانية. وفي الوقت نفسه بأنه تحصين إقليمي لوضع إيران أمام العواصف المقبلة والمتوقعة عن فشل مفاوضات فيينا، بكل ما يعنيه هذا من احتمالات حرب مقبلة أميركية-إسرائيلية على إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، الذي يبدو وفق تصريحات أميركية أو إسرائيلية أنها هي على قاب قوسين أو أدنى من ذلك. لتحييد للسعودية عن تلك الحرب تريده إيران، وهو تحييد يرغبه كذلك ولي العهد السعودي الذي يريد أن يكون خارج تلك النار المقبلة، فهذا الاتفاق هو يحوي ضمنياً إعلاناً عن قرب تلك الحرب المقبلة، والتي غيومها وطبولها لا تخفى في تل أبيب وواشنطن.
من جانب آخر، هو اتفاق نوايا يجب انتظار ترجمتها في ملفات متعددة أولها اليمن، حيث طهران والرياض هما اللاعبان الكبيران هناك، وهو شيء غير موجود في الأزمة اللبنانية حيث طهران وواشنطن هما اللاعبان الكبيران، وأيضاً في الأزمة السورية حيث واشنطن وموسكو هما اللاعبان الكبيران (وهما في حالة تصارع الآن)، فيما أنقرة وطهران لاعبان أقل تأثيراً وفاعلية بينما العرب هم الأقل تأثيراً الآن في الأزمة السورية، ولا يمكن للعرب أن يكونوا مفتاح حل هذه الأزمة.
أخيراً، كما أن واشنطن هي في تفكير طهران والرياض في الاتفاق الإيراني-السعودي فإن راعي هذا الاتفاق وصاحب مكانه، أي الصين، تريد أن تعلن من خلاله أن منافستها العالمية مع الأميركان قد أصبحت ممتدة إلى منطقة الشرق الأوسط، وأنها لم تعد مقتصرة على منطقة المحيطين الهادئ-الهندي.
* كاتب سوري