أثناء زيارة الرئيس السابق ميشال عون لمدينة رحبة في عكّار الأحد 24 أيلول الماضي، أوقف مطران عكّار باسيليوس منصور القدّاس ليخرج ويلاقي الرئيس عون ويدخل معه إلى الكنيسة. القدّاس ليس صلاة عاديّة لدى المسيحيّين، فهو يُسمّى بالقدّاس الإلهيّ لأنّه، باختصار شديد، يوحّدهم بيسوع المسيح كلمة الله. يمكن، بل يجب، أن يُقطع القدّاس في حالة خطر داهم يهدّد حياة الناس، ولكن أن يُقطع القدّاس الإلهيّ ويُحرَم الناس من المشاركة في المناولة من أجل تشريف إنسان نافذ سياسيّاً أو ماليّاً، كائناً مَن كان ذاك الإنسان، فهو أمر يجعل المؤسّسة الكنسيّة مُلحَقَة بمصالح ذاك الإنسان. وأن يتّخذ قرار من هذا النوع مطران أمرٌ يجرح ضمير المسيحيّات والمسيحيّين. بالطبع المطران لا يمثّل يسوع، فيسوع لم يترك له ممثّلاً أفضل من المهمّشين، ولكنّ قلوب الناس تتوقّع من المطران أن يسير على خُطى المسيح وتصرّف كهذا هو مُعاكس لخُطى السيّد الذي صادق الملفوظين في مجتمعه وواجه المتنفّذين بالحقّ. ثمّ إنّ المطران مكلّف بأمر واحد فقط، لا غير، ألا وهو أن يتمّم القدّاس (هو مسؤول بالطبع أن يحرص على العقيدة، ولكن هذه مسؤوليّة كلّ الشعب وليست مسؤوليّته وحده ويستطيع الشعب أن يطيح به إن حاد عن الإيمان)، لهذا بإيقافه للقدّاس أخلّ مطران عكّار بوظيفته الوحيدة: إقامة القدّاس الذي يُتوَّج بالمناولة، أي بتقديم الخبز والخمر للمؤمنين. ثمّ إنّ مطران عكّار بتصرّفه هذا صوّر نفسه مُلحقاً بسلطة سياسيّة وخادماً لمآربها، وهذه كارثة أخرى. فالخبر السارّ (وهذا هو المعنى الحرفيّ لكلمة إنجيل) الذي أتى به يسوع للناس هو أنّ الله محبّ، وأنّ سلطته هي سلطة محبّة، أي إنّها سلطة تبذل نفسها للضعيف، وإنّ وجهه حاضرٌ في وجوه الذين لا يراهم المجتمع عادة: الجائعون والعطاشى والمساجين والمرضى، أي أولئك الغرباء عن القوّة، والسلطة، والمال، والنفوذ؛ ويسوع نفسه صار بجلجلته وصلبه ذلك الذي «لا صورة له ولا جمال ننظر إليه ولا منظر نشتهيه» ملفوظاً من مجتمعه ورأساً للأبرياء المضطهدين. هذا اليسوع لا يتصالح مع مشاريع السلطة والنفوذ والدفاع عن مصالح طائفيّة، هو يتصالح، دون أن يتماهى، مع مشاريع مشاركة خيرات الأرض والمساواة الكاملة بين البشر وإعطاء الأولويّة للمهمّشين. لا يتماهى يسوع مع مطلق أيّ مشروع بشريّ مهما كان إنسانيّاً فكيف نحاول أن نجعله مُلحقاً بمشاريع نفوذ وطائفيّة؟
لكنّ علاقة السلطة الكنسيّة بالسلطة علاقة شاذّة منذ تنصّر الإمبراطور قسطنطين الذي أعتق المسيحيّين من الاضطهاد. ليس أنّ الإمبراطور مسؤول شخصيّاً عن مصير الكنيسة اليوم، ولكنّ العلاقة مع كلّ سلطة محفوفة بالمخاطر، والسلطة الكنسيّة بعلاقتها الوطيدة مع الإمبراطوريّة (التي يحلو للأرثوذكس أن يتخيّلوها سيمفونيّة متناغمة جميلة في بيزنطية وحدها، على عكس كلّ إفساد للكنيسة من قِبَل المال والسلطة حول العالم!)، انجرّت مراراً وتكراراً من كونها سلطة خادمة للمهمّشين على صورة يسوع، إلى سلطة للإكليروس تُخدَم لا تخدم؛ من سلطة من أجل حياة العالم وتعميده ليكون عالم محبّة إلى سلطة من هذا العالم بانحرافاته عن المحبّة، من سلطة على صورة «الراعي الصالح» إلى سلطة فوقيّة خادمة لنفسها.
السلطة الكنسيّة في لبنان وسوريا، بأكثريّتها الساحقة، غارقة حتّى أذنيها في ممالأة السلطة السياسيّة وغدت شبه فاقدة لكلّ استقلاليّة إنجيليّة عن السلطة السياسيّة، عن الغطرسة، عن الظلم، عن الكذب، عن شهوة التحكّم والمال، وباتت أسيرة سياسة تبادل خدمات، وحماية متبادلة مع أصحاب النفوذ السياسيّ والماليّ. زلّة مطران عكّار الأخيرة -ولا بدّ من زلّة لكلّ إنسان- والتي نتمنّى ألّا يعود إليها مع أيّ كان، تندرج ضمن هذا السياق العام المنفلش في ديار المسيحيّة الأنطاكيّة بدءاً من المسؤول الأوّل بين المتساوين. هذا الكلام ليس حكماً على أخلاق أحد، ولا على خلاص أحد، هذا توصيف للواقع الذي يشهده كلّ ضمير لم يخدّره علم، ولا شهادات لاهوت (صحيحة وملفّقة)، ولا مال، ولا سلطة، ولا تعصّب، ولا انتفاع. هذا مجرّد إضاءة إنجيليّة على الواقع، وتذكير بلآلئ أخبر يسوع أنّها مطويّة في حقلٍ، أو كتابٍ، وجده المحبّون منذ ألفَي عام ومِن شدّة فرحهم مَضوا وباعوا كلّ ما كان لهم ليقتنوه، ونحن بعدهم بعنا كلّ شيء لنغرف ونوزّع؛ هذا مجرّد تذكير بوجهٍ هو وحده ماء الحياة، بوجهٍ قيل إنّه إن شربنا منه لا نعطش أبداً لأنّ لغيره لا يعطش إنسان.
مَن يتسلّم سلطة كنسيّة ومَن يتعاملون معه، عليهم أن يتذكّروا معاً أنّ السلطة تعني القوّة التي تخدم المساندة والنموّ، وأنّ النموّ المطلوب هو نحو الفجر الذي لا نهاية له، وأنّ ذلك يمرّ بزهد وتمسّك، زهد الرغبة عن لحم العالم وتمسّكها بالعطش الذي يحرّر... لكي تتمكّن من محبّة هذا العالم حتّى الموت، موت الشهادة.

* كاتب وأستاذ جامعي