ليس لي البتّة مِن هوى بالحرب الأهليّة. على العكس، إنني أرى أن أخطرَ ما يمكن أن يواجه لبنان اليوم هو الفتنة، لكن ما يُطمئنني هو أن الطرف الأقوى لا يريدها وسيمنع نشوبها بالقوّة، فيما الأطراف التي تريدها وتؤجّج لها ستفشل في مسعاها بسبب ضعفها. ولقد جرّبت السعوديّة في الأحداث التي رافقت 7 أيّار أن تشنَّ الحرب ضد الحزب لكنّ القوة الكاسحة للحزب أفشلت المخطّط في غضون ساعات. الذي هزم إسرائيل، يستطيع أن يمنع الحرب الأهليّة ومن دون عنف على مستوى شامل. كنتُ أريد أن يكون كتاب فؤاد أبو ناضر (فؤاد أبو ناضر، «لبنان: نضالي، قضيّتي: نحو جمهوريّة ثالثة») غير ما هو عليه. كنتُ أنتظر دائماً شهادة مراجعة حقيقيّة من قبل مقاتلي وقادة ميليشيات الطرف اليميني في الحرب الأهليّة. لكن ما يصدمني هو العناد في المواقف، كل المواقف، عندهم. في المقلب الآخر، أرى في مقاتلي الحركة الوطنية وقادتها لهجة ومضموناً اعتذارياً يكاد أن يعترف بأحقّية السرديّة الانعزاليّة للحرب (عندما يعتبر إلياس جرادة أن ميليشيات «الكتائب» و«الأحرار» هي مقاومة لبنانيّة فإنه بذلك يهين شهداء الحركة الوطنيّة).

محسن إبراهيم اعتبر أن الحركة الوطنيّة هي التي حمّلت لبنان أعباء القضيّة الفلسطينيّة، لا إسرائيل. وهو أضاف أن الحركة (التي لم تكن لديها ميليشيات عند نشوب الحرب، على عكس أحزاب اليمين) استسهلت الانزلاق إلى الحرب.
يبدو فؤاد أبو ناضر في مقابلاته معتدلاً، مقارنةً بآل الجميّل وجعجع. وهو يرى في نفسه رجلاً معتدلاً. لكن سرديّة أبو ناضر متعنّتة في إنكار حقائق أساسيّة عن تاريخ الحزب وعن تاريخ الحرب الأهليّة التي شارك فيها على مستوى القيادة. تقرأ سرديّة أبو ناضر (وهي السرديّة الانعزاليّة المعتمدة عند جميع قادة الأحزاب اليمينيّة والتي يشارك فيها المحافظون اللبنانيّون الجدد، مثل وليد جنبلاط وتوفيق سلطان ومحسن إبراهيم وغيرهم) وتتساءل: كيف يمكن أن يصدّق أبو ناضر ما كتبه، مع العلم أنه كتبه بالفرنسيّة لجمهور غربي.
الذي أثار عجبي في هذا الكتاب هو ما ورد في صفحة 171 إذ يقول أبو ناضر: «حملتُ السلاح وأقاتل اليوم أيضاً من أجل القضيّة نفسها، أن نتمكّن من العيش في هذه البلاد -مسيحيّين، مسلمين، ودروزاً- بكل حريّة وأمان وكرامة ومساواة». إنّ الحزب الذي قاتل أبو ناضر فيه في عام 1975 وما بعده كان يقتل مواطنين آخرين ليس من أجل المساواة وإنما من أجل منع أي إصلاح ينزع نحو المساواة. النظام اللبناني قبل الحرب كان نظام أبارثايْد، مبنياً على نسق النظام الإسرائيلي أو الجنوب أفريقي. وكان المسلمون يشكّلون أكثريّة فيه لكنّ الزعماء الموارنة اعتمدوا شتّى الحيل غير الديموقراطيّة لمنع تحقيق المساواة: من منع تعلّم المسلمين وعرقلة مشروع إنشاء كليّة حقوق عربيّة تابعة للجامعة اللبنانيّة، إلى حظر شهادة التوجيهيّة إلى الإصرار على عدم مساواة صارخة في حصر الامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة بالموارنة، إلى ربط لبنان بسياسات خارجيّة متعارضة مع أهواء الأكثريّة الساحقة من المسلمين (ومن بعض المسيحيّين). هل كان السبت الأسود، والذبح على الهويّة الذي استهدف مسلمين لبنانيّين، من أجل تحقيق المساواة؟ هل كان تهجير المسلمين من النبعة ومن حي بيضون من أجل تحقيق المساواة أم من أجل منع التوطين؟ تلجأ السرديّة المعتمدة للحرب إلى انتقاء جزئي للجانب العسكري في الحرب كي تصبح الحرب صافية بين مسيحيّين وفلسطينيّين فقط. إنّ الجبهة العسكريّة الأولى في الحرب، الشياح—عين الرمّانة، هي جبهة لم يكن للفلسطينيّين دور فيها. هي كانت بين شيعة ومسيحيّين فقط.
يقول إنّ الجانب اللبناني في الحرب لم يكن «كبير الشأن» (ص. 13). لكن معظم ضحايا الحرب كانوا من اللبنانيّين. الأحزاب المارونيّة قاتلت الشيعة والسُّنة والدروز وتقاتلوا في ما بينهم. يقول إنّ الأحزاب المؤيّدة للفلسطينيّين هدفت إلى «إسقاط الرئاسة المسيحيّة للدولة اللبنانيّة الوحيدة في العالم العربي» (ص. 13). هذا كلام ينطلي على قرّاء أحزاب يمينيّة مسيحيّة في الغرب لكن على اللبنانيّين؟ ثم، صحيح، تمرّد المسلمون في لبنان، كما تمرّد يساريّون، ضد نظام لبناني طائفي كان يحصر كل الصلاحيّات برئيس ينتمي إلى طائفة تمثّل أقليّة بين اللبنانيّين. لا نستطيع أن نمنع عدّ الطوائف وأن نصرّ على حصر الصلاحيات بطائفة. فليُلغَ العدّ الطائفي من أساسه كي نحقّق بالفعل المساواة التي ينشدها، نظريّاً، أبو ناضر.
نحتاج إلى شهادات لمقاتلين وقادة في ميليشيات الحرب. كل هذا الكم سيساعد في كتابة تاريخ الحرب يوماً ما. لكن غالبية الشهادات تأتي من طرف اليمين لأن قادة الحركة الوطنيّة، في أكثرهم، أصبحوا في مواقع سياسيّة مضادّة


يتحدّث أبو ناضر عن الطوائف بتعميمات تنميطيّة ظنّ المرء أنها لم تعد مقبولة في القرن الحالي. يقول عن سنّة لبنان: «معظم السنّة اللبنانيّين مؤيّدون لتوطين الفلسطينيّين» (ص. 16)، وعن الدروز يقول: «لا يريد الدروز البحث في الأمر». لكنّ أبو ناضر يكشف عن جانب إنساني في شخصيّته إذ يقول: «لا اعتراض لي على الفلسطينيّين بصفتهم شعباً». هذا موقف إنساني بحقّ. ويتفاءل أبو ناضر بالنسبة إلى المسلمين في لبنان، فيقول: «اليوم، يشارك مواطنونا المسلمون في فكرة الحريّة» (ص. 21). وهنا، يتوجّب على المسلمين في لبنان توجيه الشكر الرسمي إلى المسيحيّين الذين علّموهم حبّ الحريّة (والحياة أيضاً؟). ويقول عن الحرّية هذه: «حال الأحرار هذه التي تميّز اللبنانيّين عموماً والمسيحيّين خصوصاً» (ص. 31). ويبدي أبو ناضر إعجابه بالمسلمين الجدد، مثل فؤاد السنيورة الذي أعطى «الضوء الأخضر» ليقصف المخيّم الفلسطيني في نهر البارد (ص. 25). ويقول إنه في حلقة تلفزيونيّة شارك فيها مع شيوعي وبعثي، أبدى الرجلان خيبة حسنة من القضيّة الفلسطينيّة.
ويتوجّه أبو ناضر بالحديث إلى الغرب، ويقول إنهم يمكن أن يستفيدوا من خبرات فريقه المسيحي في لبنان في التعامل مع المسلمين في الغرب (ص. 33). نرجو هنا ألا يكون أبو ناضر في وارد حثّ الغرب على ارتكاب مجازر مثل السبت الأسود والقتل على الهويّة والتهجير الطائفي. ويذكّر أبو ناضر بأن حزب الكتائب كان يحمي الحيّ اليهودي منذ 1958 (ص. 33)، وهذا صحيح لكنه نسي أن يذكر أنه فعل ذلك مقابل دفوعات منتظمة من إسرائيل. ويتحدّث أبو ناضر كثيراً عن مسيحيّي الشرق لكن، على عادة الكتائبيّين، يغفل في حديثه عن ذكر مسيحيّي فلسطين. ليسوا في الاعتبار. ويصحّح أبو ناضر صورة غربيّة مغلوطة عن «الكتائب» فيقول إنها، خلافاً للحزب التقدمي الاشتراكي الذي لا يمتّ بصلة إلى اسمه، تقدميّة واشتراكيّة حقّة (ص. 51).
أمّا عن اشتعال الحرب، فهناك المزيد من الروايات الجديدة التي يطلع بها حزب الكتائب سنة بعد سنة. لو راجعنا أرشيف سنة 1975، لما وجدنا أن بيانات حزب الكتائب ذكرت أي شيء عن محاولة لاغتيال بيار الجميّل في يوم البوسطة الشهير. أبو ناضر ينفي أن يكون هناك مسلّحون كتائبيّون في ذلك اليوم: أي إن الرصاص انهمر من العلياء وقتل كل ركّاب البوسطة. ويذكر حادثة جرّ أمين الجميّل لرئيس الحكومة، رشيد الصلح، من يده، ويقول إن ذلك كان مشهداً «عديم القيمة» (ص. 75). ويعترف أن بشير الجميّل عندما اختُطف في عام 1970، كان في طريقه لزيارة مقاتلين في الدكوانة (ص. 60). هذا الحزب نفسه زعم أنه لم يكن يملك السلاح في عام 1975، بالرغم من تسليح إسباني وألماني وأميركي وسعودي وإسرائيلي وجنوب أفريقي وإيراني. وبالرغم من كل هذا الدعم، يزعم أبو ناضر أن العناصر كانوا يدفعون ثمن الرصاص. ويزعم أن الفلسطينيّين (يقول عنهم إنهم «باعوا حقاً قضيّتهم») كانوا يبيعونهم السلاح (ص. 64). يعترف أن التدريب بدأ في عام 1971، فيما لم يبدأ أي تدريب لأحزاب الحركة الوطنيّة قبل عام 1975. ويعترف بأن بشير شكّل «فريق نخبة طلابيّة» (ص 62) لكنه لا يُعلم القارئ أن مهمّة هذه النخبة كانت التجوال على المدارس والجامعات من أجل ضرب الطلاب اليساريّين والفلسطينيّين (وكانوا مسلّحين بهراوات وجنازير). وكانت إدارة الجامعة الأميركيّة تنسّق مع بشير الجميّل في قمع الطلاب (كما ورد في كتاب جورج فريحة، «مع بشير»).
ويتحدّث عن الصراع الدموي بين «الكتائب» و«الأحرار» فيقول مُوضّحاً للرأي العام الغربي عن علاقة بيار الجميّل وكميل شمعون: «لا تنافس بل احترام عميق» (ص. 84). وكل الصراعات والاشتباكات بين الطرفيْن، ليست مهمّة في تاريخ حزب الكتائب لا بل هو يلقي باللائمة على النظام السوري ومخابرات الجيش (ص. 84). أي إن النظام السوري كان يحثّ الكتائبيّين على قتل عناصر «الأحرار» لتنفيذ مآرب «البعث». هذه الروايات هي مصارحة في قاموس أبو ناضر. ثم هناك مجزرة إهدن، ومن الصعب أن تغضّ النظر عنها. هنا، ترد زلّة لسان من أبو ناضر إذ هو يذكر تمسّك سليمان فرنجيّة في مؤتمرَيْ لوزان وجنيف بالامتيازات الطائفيّة المارونيّة ويقول فيه: «أعطى سليمان فرنجيّة الأولويّة لقضيّة المسيحيّين ولبنان» (ص. 87). قضيّة المسيحيّين هي نفس قضيّة لبنان؟ ثم كيف نوفّق بين الكلام عن قضيّة المسيحيّين والكلام الشعري في الكتاب عن المساواة وعن الوطنيّة ونبذ الطائفيّة؟
ولا يتورّع أبو ناضر عن الترويج لنظام بيروت الشرقيّة على أنه كان نموذجاً من الحرّيات. لا يذكر أبو ناضر عدد المسلمين والمسيحيّين الذين قُتلوا في تلك المناطق بسبب تأييدهم لأحزاب الحركة الوطنيّة، أو ببساطة بسبب طائفتهم. يقول تدليلاً على الحرّيات إن (الكوميدي؟) وسيم طبارة وزميله محمد شبارو كانا يقدّمان عروضاً في الشرقيّة. لكنّ الرجليْن كانا مؤيّديْن لـ«الكتائب». ولا يصدق أبو ناضر عندما كان يقول إن العروض كانت تتضمّن انتقاد بشير الجميّل، الذي كان يحضر عروضهم.
ويتحدّث أبو ناضر وغيره عن بطولات وملاحم في معارك ضد السوريّين (والعثمانيّين أيضاً) (ص. 95). لكن متى وأين كانت هذه المعارك؟ معركة الأشرفيّة كانت عبارة عن قصف سوري مقيت للمنطقة الشرقيّة. لم تكن هناك معارك. وكل معركة خاضها حزب «الكتائب» خسرها: الجبل والفنادق وزحلة وشرق صيدا. هذا تاريخ متخيّل يرويه أبو ناضر. وما يُسمّى بمعركة زحلة كانت استفزازاً من بشير الجميّل لجرّ تدخل إسرائيلي لصالحه. حتى المراجع الإسرائيليّة تعترف بذلك.
نحتاج إلى شهادات لمقاتلين وقادة في ميليشيات الحرب. كل هذا الكمّ سيساعد في كتابة تاريخ الحرب يوماً ما. لكن غالبية الشهادات تأتي من طرف اليمين لأن قادة الحركة الوطنيّة، في أكثرهم، أصبحوا في مواقع سياسيّة مضادّة وهم لا يريدون التذكير بماضيهم. أصبحوا من جماعة لبنان أولاً والسعوديّة أولاً. لكنّ أبو ناضر لا يساعد في مشروع تأريخ الحرب لما شاب كتابه من انحياز وتلفيق وتزوير للحقائق.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@