«الجرذ يعرف دوماً موقعه حين يكون بين الضباع
هنا، أنت تخسر القليل من نفسك في كلّ يوم»
توم وايتس - قطرة صغيرة من السّمّ


على الرغم من أننا في أيام حرب، أو ربما بسبب ذلك، فإنّ الوقت قد يكون مناسباً لنشر سلسلة من المقالات كنت أحضّر لها، أساسها في الاقتصاد السياسي. أخطر ما في الحروب كثيراً ما يكون في المرحلة التي تليها، والتسويات والانقلابات والقناعات التي يتمّ ترسيخها بعد انتهاء العمليات الحربيّة (حرب 1973 مثالاً). وإن كان الاختراق الخليجي في العقود الماضية، «الأثر الثقافي» لهيمنة النفط ورأس المال الدولي، قد أخذ طابعاً مذهبياً سلفيّاً رجعيّاً، فإنّه في المستقبل سيكون أكثر «حداثة» و«ليبراليّةً»، نماذجه دبيّ و«نيوم»، مع وعودٍ برخاء و«سلام»، وتواصل مع العالم ومال وسياحة، وبنايات عالية فخمة. مثل هذا الكلام، بعد سنين من الحرب والفاقة، هو كفيلٌ بجذب فئات كثيرة ومتنوّعة من الناس بغضّ النّظر عن صحّته من زيفه. هم يستخدمون أدواتٍ جديدة لسياقٍ جديد، وعليك، أنت بدورك، أن تطوّر أدواتك. نحن في أيّام حربٍ وموت وليس من السّهل أن تفكّر في ما عداها أو تنصرف إلى التفكير والتحليل، ولكن إن لم يكن لك من دورٍ على الجبهة، فإنّ عليك أن تقوم بعملٍ ما.
عند حسن الخلف «نظرية» تربط بين ضمور الإنتاج العلمي لدى العرب والمسلمين وصعود ظاهرة المقاهي. فعليّاً، نحن خرجنا من ركب الإنتاج العلمي في القرن السادس عشر، يقول الخلف، وهي الفترة نفسها بالضبط التي انتشرت فيها مادّة القهوة في بلادنا وساد استهلاكها. ومع استيراد القهوة من اليمن وأفريقيا، خرجت مؤسسة «المقهى»، في إسطنبول وفي باقي المدن والمراكز الحضرية في الإقليم (يبدو أنّ أوّل من استدخل القهوة إلى إسطنبول كانوا سوريين من الشام أو حلب). ونشأت مع المقاهي عادة أن يقضي الذّكور أوقات فراغهم فيها، بالساعات، وهم يتجاذبون أطراف الحديث. لا هم يقومون بعملٍ محدّد كالقراءة، ولا هم يشربون الكحول أو يتسرّون في الليل، بل هي مكانٌ لتمرير الوقت، يرصدون فيه الأخبار وشائعات المجتمع، ويناقشون آراءهم وأفكارهم فيما هم يشربون القهوة ويدخّنون الشيشة (وهي عادة مستوردة من «العالم الجديد» في المرحلة نفسها، وقد حاول أكثر من سلطانٍ ومرجعٍ دينيّ يومها أن يغلقوا المقاهي أو يحرّموا الشيشة والقهوة).
الفكرة هي أنّ السياق الاجتماعي للمقهى يشجّع على ما يمكن أن نسمّيه «اجترار المعرفة» ولكن ليس إنتاجها أو حتّى حفظها ونقلها. الثقافة الكلاميّة. آليّةٌ لتحويل الشؤون العامّة والكتب والمعارف إلى موضوعٍ للتسلية أو إلى «عدّة اجتماعيّة»، راكمتها في زمنٍ ما وتستخدمها في الجلسات. وفي وسعك هنا، بالطبع، أن تأخذ حريتك، وأن تبتدع نظريّتك الخاصّة عن الدّولة الأمويّة، مثلاً، أو في الاقتصاد والفقه والأركيولوجيا - ولجنة التحكيم مكوّنة من رفاقك في القعدة (هل تذكرون، إبّان الانهيار المالي في لبنان، كيف أصبح الجميع فجأةً خبيراً في الاقتصاد والماكرو؟ وذلك بعد أن قرأ بوستات أصدقائه على الإنترنت واستمع إلى محاضرة لمحمّد زبيب؟).
ما يريد الخلف الوصول إليه، كما حزرتم، هو أنّ الإعلام السائد والسوشيال ميديا قد أصبحا اليوم بمقام المقهى في القرون السابقة، حيث يعطيك «الخبراء» و«المؤثّرون» وهماً بأنّهم يشركونك في حقل السياسة والتفكير، فيما عملهم الحقيقي يكمن في تسليتك والتأثير عليك. قد يستمع الناس إلى «محلّلٍ» على التلفزيون، ويطربون لكلامه، ويهمّنا دوماً أن يتنبّأ لنا أحدٌ بالمستقبل ويخبرنا عمّا سيحصل. ولكن عليك هنا، بعد أن تنتهي من الاستماع، أن تأخذ خطوةً إلى الوراء وتسأل نفسك: ماذا تعلّمت حقّاً هنا؟ والتسلية والمعرفة هما مجالان مختلفان بالكامل.
سوف ننتقل في هذه السلسلة من أماكن مثل روسيا وإيران إلى الخليج ودبيّ، وصولاً إلى الصّين وإيران، والهدف هو تقديم تنظيرٍ مختصر عن معنى «النظام الدّولي» وتجلياته في بلادنا، أو أقلّه نظرتي الخاصّة إلى الموضوع. وسنتطرّق إلى مواضيع تراوح بين التاريخ والاقتصاد والسياسة والعمارة (والمطبخ والمطاعم ربّما، إذ أنوي كتابة شيءٍ عن الكويت).
قد يقال: أليس من الأفضل أن تطوّر هذه الأفكار وتجمعها في كتاب؟ وهذا نظريّاً صحيح ولكن، من جهةٍ، من ذا (غير المحترفين والمختصّين) لا يزال يقرأ الكتب هذه الأيّام؟ ومن ناحيةٍ أخرى، فإن سلسلة طويلة من المقالات قد تكون طريقةً ممتازة من أجل تبرير راتبي لأشهر قادمة من غير كثير جهد (وهي منهجيّةٌ استوحيتها من أسعد أبو خليل). أخيراً، أن تكتب ضمن «خطّةٍ» ما، أو في مشاريع صغيرة، قد يساعد في وقايتك من أخطر تحدٍّ يواجهه الصحافي، بحسب ماكس فيبر، وهو أنّه لا يختار حقيقةً ماذا يقول ومتى يتكلّم؛ بل عليه دوماً أن يعلّق على ما يجري، أن يقول «شيئاً ما»، حتى إن كان لا يملك ما يضيفه. هذا الضغط وغياب الخيار هو ما يمنع الصحافي، بحسب فيبر، من أن يقول شيئاً سياسياً بحقّ، بل يكون هو نفسه في الغالب جزءاً من الكلام السياسي.

في النظريّة: التخصّص والتجارة
سوف نستعين، بخاصّة هنا في الجزء النظري، بمدرسة «الأنظمة-العالم» (world systems theory) بشكلٍ مكثّف. هذا لا يعود فقط إلى أنّني أجد إطار النظريّة مفيداً للغاية لفهم بلادنا، ولأني أتعاطف مع منهجيتها التاريخية، بل أيضاً لأننا لو نظرنا إلى العالم اليوم بشكلٍ موضوعي، لاكتشفنا أن أكثر ما يحصل منذ التسعينيات هو، حرفياً، تصديقٌ لما كان يقوله أناسٌ مثل غوندر فرانك وولرستاين وسمير أمين في العقود الماضية. انظروا، كمثال، إلى «الحرب التجارية» القائمة بين الصين والغرب. ما يجري اليوم لا يمكن تفسيره عبر أيٍّ من النماذج النظرية السائدة: هي ليست ثنائية بين حرية السوق والانغلاق، مثلاً، ولا هي صراعٌ بين منظومتين كما في الحرب الباردة (رأسمالية واشتراكية)، لكلّ منهما «عالمها» واقتصادها وبينهما أسوار. أميركا والغرب لا يريدان الصّين «خارج» الاقتصاد المعولم، ولا هي تريد أن تنعزل عنه، الصّراع هو حرفياً على مكان الصّين ضمن تقسيم العمل على المستوى الدّولي. الغربيون يريدون للصين أن تلتزم دورها الأصلي في تصدير قوة العمل الرخيصة (والنظام العالمي القائم يحتاج إليها في هذا الدّور)، فيما الصينيّون يريدون انتزاع أدوار كانت حكراً على دول «المركز» ومزاحمتها فيها. وذلك لأنّ العولمة الرأسماليّة لا تعني - كما يرى الليبراليون الكلاسيكيون - سوقاً مفتوحةً للجميع وملعباً مستوياً كبيراً يركض فيه اللاعبون بحريّة. بل هي عبارةٌ عن «نظامٍ» هو تشكيلٌ تاريخيّ، وله شكلٌ محدّد، ومكوّن من «أجزاء» تلعب فيه أدواراً مختلفة، وهي ليست متساوية.
بدايةً، إن كنت تريد تقديماً، أو باباً مختصراً لفهم مدرسة «الأنظمة-العالم»، فقد يكون من الأفضل أن لا نبدأ عبر مفاهيم شائعة مثل العلاقة بين المركز والأطراف، أو انعدام العدالة بين أجزاء النظام، والشمال والجنوب، أو التبادل اللامتكافئ، فهذه أغلبها بمثابة «عوارض» (والمدرسة أساساً ليست شيئاً واحداً، وفيها تحليلات متعددة واختلافات بين مريديها، بل هي بمثابة «إطار نظري» عام لتفسير نشأة الرأسمالية وبنيتها اليوم). الكلمة المفتاح في رأيي، نظراً إلى ما ننوي شرحه هنا، قد تكون في مفهوم «التخصّص». في عصرنا هذا، أصبح من البديهي والطبيعي أن نرى دولاً تتخصّص في نشاطاتٍ معيّنة: هذا بلدٌ يتخصّص في تصدير القمح، أو يعتمد على إنتاج المواد الأولية والطاقة، أو هو صناعيّ متقدّم مثل كوريا وتايوان. المسألة هي أنّ مثل هذا التخصّص لا يمكن تخيّله أصلاً إلّا ضمن ظروف العصر الحديث والعولمة الرأسمالية. المشكلة ليست في القدرات والإرادة بل في السياق التاريخي بأكمله. في أوروبا القرون الوسطى، مثلاً، أنت كنت تعيش ضمن «وحدة اقتصادية» شبه مكتفية (قد تكون بحجم بلدةٍ حولها حفنة من القرى)، حتّى لو تخصّصت في إنتاج سلعةٍ ما فإنك لن تجد من يشتريها - ولن تجد داخل «سوقك» من يمتلك فائضاً يبيعك إياه لتغطية احتياجاتك. ولكن حين تدمج أوروبا الغربية، مثلاً، أجزاء كبيرة من شرق أوروبا و«العالم الجديد» معها في منظومةٍ اقتصادية واحدة وسوقٍ متّصل، عندها يصبح لديك ما يشبه «عالماً» صغيراً، وسوف تنحو أجزاؤه نحو التخصّص. شرق أوروبا وجزر الكاريبي تنتج الغذاء والمواد الأوّليّة، السويد وبولندا والعالم الجديد يزوّدون المركز بالحديد والفضّة، وغرب أوروبا يتفرّغ لنشاطات صناعيّة وتجاريّة، وتظهر فيه مدنٌ كبيرة وأنماط إنتاجٍ متقدّمة.
الجوهر هنا هو في العلاقة المتبادلة بين المنظومة وأجزائها. لا يمكن لأقاليم في غرب أوروبا أن تتخصّص في الصناعة والتجارة، وتخصص أرضها لزراعاتٍ ومحاصيل تخدم هذه الدورة «البرجوازية» (كالصوف في بدايات الثورة الصناعية، أو المزارع التجارية التي ترتبط بحاجات المدن وحرفيّيها)، من دون أن يكون هناك «مكانٌ آخر» يزوّدك بالمواد التي تفتقر إليها، وبالقمح والشعير لإطعام ملايين الناس الذين قد انتقلوا إلى المدن ولم يعودوا ينتجون الغذاء. في الوقت نفسه، أنت لن تتحوّل إلى دولةٍ «طرفيّة»، تعتاش على إنتاج المواد الأولية لغيرك، إن لم تكن جزءاً من منظومةٍ فيها «مركزٌ» يطلب باستمرار، وبكميات كبيرة، مثل هذه السّلع ولديه الفضّة لدفع ثمنها. من دون «الأجزاء» ودفعها إلى التخصّص لا وجود للمنظومة، ومن غير المنظومة لا وجود للرأسمالية الحديثة.
هذا يأخذنا إلى التعبير المفتاحي الثاني هنا، وهو مفهوم التجارة. كما يكتب الاقتصادي الروسي بوريس كاغارليتسكي، فإنّ مدرسة الأنظمة-العالم كثيراً ما يتمّ اتهامها بأنها تعظّم من شأن التجارة الدولية وتبالغ في أهميتها، ولكن أهمية التجارة لدى هؤلاء هي ليست في حجمها أو محتواها (كم من المال يذهب في اتجاه وكم من السلع يذهب في الاتجاه الآخر)، بل في واقع أن التجارة اليوم هي بمثابة «التمثيل المادّي لتقسيم العمل على المستوى الدولي». الشرايين التي تربط أجزاء النظام بعضها ببعض وتجعله جسداً واحداً. المشكلة، يضيف كاغارليتسكي، هي أن الكثير من الاقتصاديين ينظرون إلى «التجارة» اليوم وإلى «التجارة» في القرون السابقة على أنها الأمر ذاته، فيما (مع أننا نستعمل التعبير نفسه للإشارة إلى التجارة الدولية اليوم والتجارة الدولية في القرن الثاني عشر) هما في الحقيقة عمليتان مختلفتان نوعياً وبالكامل.
التجارة تاريخياً، يشير هؤلاء، كانت أوّلاً «تجارة بالفائض». بمعنى أنّك، إن كنت تعيش في أوروبا الإقطاعية، فأنت أصلاً تنتج 95% من حاجاتك بنفسك أو من محيطك المباشر، وأغلب نشاطك الاقتصادي لا يتحوّل إلى نقدٍ ولا يدخل «السّوق» والحسابات (ما نسميه اليوم «الناتج المحلّي»). ثانياً، التجارة قبل الرأسمالية الحديثة كانت تقوم على سلعٍ غالية الثمن (كالحرير والتحف والبورسلين) يستهلكها من كان يمتلك النقد في تلك الأيام، أي الأثرياء والنبلاء والبلاط (أو يكون الاستيراد لحاجاتٍ استراتيجية للدولة، كالبرونز والنحاس للجيش، والخشب للبناء والقصور). ثالثاً، هذه التجارة كانت بطبيعتها تجارةً بعيدة المدى، تنتهي خطوطها في المراكز المدينيّة الثريّة وعواصم الإمبراطوريات. يعطي الأكاديمي الروسي هنا مثال العالم السلافي في القرن الحادي عشر: إن كانت أعالي الأورال تنتج فراءً وحلىً وعبيداً، وأعالي الفولغا لديها السلع ذاتها، ومثلها نوفغورود وكييف، فماذا ستتبادل هذه المناطق مع بعضها؟ ولكن بالمقابل، إن كان هناك مركزٌ إمبراطوري ثري في بغداد، وهو قد خلق طلباً هائلاً على منتجات الشمال الروسي التي لن تجدها في العراق، فهذا يكفي لإنشاء «طريق حريرٍ» يمتدّ بين روسيا وبغداد، أو أكثر من واحد، وستنتعش على طوله أقوامٌ وأقاليم، وتظهر مدنٌ ومحطّات تجاريّة جديدة. على الهامش: يبدو أن عادة اقتناء الفراء في بغداد قد سادت في عهد هارون الرشيد وانتشرت، حتى أصبحت قطعة فراء مميزة لحيوانٍ نادر تجلب أسعاراً مذهلة في سوق العاصمة. يقول كاغارليتسكي إن زبيدة، زوجة الرشيد، كانت هي أوّل من اعتنق هذه الموضة وسار على تقليدها علية القوم. فأصبح على أيّ رجلٍ يعتبر نفسه ذا مكانةٍ في بغداد أن يجعل في عباءته خيطاً من الفراء، أو يبطّنها به؛ وأصبح من الرائج تزيين جدران المنازل وأرضياتها في بغداد بقطع فراءٍ وجلودٍ فريدة، أو استخدامها مساند وأغطية في مجالسهم وأسرّتهم - على طريقة الفايكينغ (وقد ظلّ الشمال الروسي هو المصدر الأوّل للفرو في التجارة العالمية حتى استوطن الأوروبيون أميركا وكندا).
هذا لا يعني أنّ التجارة في الماضي لم تكن مهمّة ومؤثّرة، بل كانت جزءاً أساسياً من الاقتصاد المالي - ولكنّ أكثر الاقتصاد والإنتاج في المجتمع يومها لم يكن نقديّاً. والوظيفة التي كانت تلعبها التجارة لا تقارن بسلسلة الإنتاج المعولمة بمفهومها الحديث، حيث يتم إنتاج السلعة الواحدة بين خمس دول وثلاث قارات. نحن هنا في عالمٍ مختلفٍ تماماً، والتخصّص وتقسيم العمل على المستوى الكوني هما أهمّ صفاته.

روسيا: عالم الأطراف
قد يكون مثال روسيا التاريخية والحديثة، وكتابات الباحث بوريس كاغارليتسكي (وهو سوسيولوجي واقتصادي من روسيا يتبع مدرسة الأنظمة-العالم) مفيدةً لنا على أكثر من مستوى؛ وبخاصة حين نفهم أنّ دولاً مثل روسيا والسعودية وكازاخستان هي متشابهة في العمق أكثر بكثيرٍ ممّا يبدو في الظاهر، وذلك ببساطةٍ لأنها تلعب الدّور ذاته في النظام الدّولي (كاغارليتسكي، بالمناسبة، يتعرّض إلى المحاكمة في موسكو بسبب انتقاداته للحكم، وقد اعتُقل لأشهر واتُّهم بالعمالة؛ ولكنّه ينتقد بوتين «عن يساره»، معتبراً أنّه فقد الأمل في رغبة - أو قدرة - بوتين على حلّ أزمة روسيا بشكلٍ جذريٍّ ومستدام).
ولكن، فلنرجع قليلاً إلى الوراء. لو أنّك سألت أوروبياً في القرن التاسع عشر عن انطباعه عن روسيا، لكان على الأرجح سيصفها كبلدٍ زراعيّ، شبه إقطاعي، قيصرٌ وعبيد، بويار وأقنان، ونمط إنتاجٍ «آسيوي» أو يشبه ماضي أوروبا الإقطاعي في القرون الوسطى. الحقيقة، يشرح كاغارليتسكي في كتابه «إمبراطورية الأطراف» أنّ الطابع الزراعي/الإقطاعي في روسيا حديثٌ نسبياً؛ بل إنّه في المرحلة التي كانت أوروبا الغربية فيها إقطاعيّة وزراعيّة كانت أرض السلاف (شرق أوكرانيا وغرب روسيا اليوم) تُكنّى في المراجع التاريخيّة بـ«أرض المدن»، إذ كان ذاك الإقليم يحوي عدداً معتبراً من المدن الكبيرة، وبشكلٍ غير معهود في أوروبا يومها، والمراكز الحضرية (مثل كييف وفلاديمير وموسكو ونوفغورود ومدن البلطيق) هي قلب الاقتصاد والسلطة وليس الأرياف والسهول الزراعية. السّبب هو أنّ تلك المنطقة أيامها كانت بمثابة «تقاطع طرقٍ» تجاريٍّ فريد، الطريق الأقصر لنقل السلع بين شمال أوروبا وغربها من ناحية، وبين بيزنطية والشرق، وصولاً إلى الصّين، من الجهة الأخرى، فقام فيها اقتصادٌ يسمح بـ«تمويل» عددٍ كبيرٍ من المدن التجارية. شيءٌ يختلف بالكامل عن الصورة النمطية التي نحملها عن روسيا، وهذا ما يهدف الكتاب لشرحه: أن «روسيا الرجعية الإقطاعية» هي تشكيلٌ تاريخي حديث نسبياً، عمره تقريباً من القرن الثامن عشر، وهو قد نشأ تحديداً بسبب توسّع «نظام-عالم» ولد في أوروبا، وتحويل روسيا إلى «طرفٍ» زراعيٍّ لهذا «المركز»، مهمّته تصدير الحبوب والمواد الأوّليّة. فتغيّر، مذّاك، مسارها التاريخي بالكامل.
لو نظرنا إلى العالم اليوم بشكلٍ موضوعي، لاكتشفنا أن أكثر ما يحصل منذ التسعينيات هو، حرفياً، تصديقٌ لما كان يقوله أناسٌ مثل غوندر فرانك وولرستاين وسمير أمين


«القنّ الرّوسي»، أصلاً، ليس وليد نظامٍ عرفيٍّ بائدٍ من القرون الوسطى كما قد نتخيّل، بل هو قد ولد في عشرينيات القرن الثامن عشر، حين عدّل بطرس الأكبر القوانين الزراعية بشكلٍ قضى على نظام المزارع المشارك الحرّ. كان المزارع الروسي قبل ذلك يتعاقد مع صاحب الأرض، ويدين له حينها بعمل موسمٍ كامل، ولكن لديه نافذة من الوقت، في عطلةٍ دينية تلي موسم القطاف، يحقّ له خلالها الانتقال إلى عقدٍ جديدٍ في أرضٍ جديدة؛ قانون بطرس الأكبر ألغى تلك النافذة وجعل المزارع فعلياً «قنّاً» في تصرّف المالك. وهذا قد جاء إثر حرب الشمال الكبيرة ضد السويديين، حين كانت الدولة في حاجةٍ إلى تصديرٍ وقطع أجنبي لدفع ديونها وكلفة الحرب. وكان من المفترض أن يكون هذا الإجراء استثنائياً ومؤقتاً، ولكنه تحوّل إلى تقليدٍ دائم، و«نمط إنتاجٍ» مكرّس في الريف الروسي «التجاري» - الملكيات الكبرى التي تنتج الحبوب بغية التصدير.
شهد القرن التاسع عشر اندماج روسيا بشكلٍ وثيقٍ ضمن النظام الغربي الرأسمالي الناشئ، ولكن من موقعٍ طرفيّ بامتياز. ومن هنا خرج نظام إنتاجٍ زراعيٍّ قد يشبه في الظاهر أرياف القرون الوسطى ولكنّه في الحقيقة تشكيلٌ «حديثٌ» و«معولم» (فالنظام، وإن كان برجوازياً وصناعياً في المركز، فهو لا يحتاج إلى روسيا في مثل هذه الأدوار). يشرح كاغارليتسكي بإسهاب عن بدايات العلاقة بين روسيا والمركز البرجوازي الناشئ في أوروبا الغربية. منذ القرن السادس عشر، مثلاً، كانت روسيا مصدراً استراتيجياً بالنسبة إلى بريطانيا للأخشاب والحبال من أجل بحريّتها. والأكاديمي الروسي يشبّه الحبال والكابلات أيامها بالنفط في ما بعد، بمعنى أن لا غنى عنها - وبكميات كبيرة - لتسيير السفن والأساطيل. والجزر البريطانية كانت فقيرةً بتلك المواد ففتحت خطّاً مباشراً مع القيصر الرّوسي، وكان الأسطول الإنكليزي الذي هزم الأرمادا الاسبانية مكوّناً أساساً من مواد أولية جاءت من روسيا. بل إنّ غالبية الحروب التي خاضتها روسيا في مرحلة صعودها على المسرح الأوروبي، ضدّ السويد أو بولندا، كانت على انتزاع موقع «المورّد» الأساسي للمركز الأوروبي الثّري. على عكس ما يتصوّر البعض، فأن تكون «هامشاً» للمركز هو ليس بالضرورة أسوأ ما يمكن أن يحصل لك، وأنت بلد فقيرٌ لا يملك التقنية ولا السوق ولا رأس المال. البديل هنا ببساطةٍ هو أن تكون متخلّفاً. وها هي أوكرانيا اليوم تضحّي بجنودها، وتخوض نزاعاً دموياً تاريخياً ضدّ سلافٍ آخرين، وكلّ ذلك لتحوز موقعاً هامشياً على طاولة المركز.
الأساس هنا هو أنّه لا يمكن أن تفهم التاريخ المحلّي لبلدٍ مثل روسيا كـ«عمليّة داخليّة» بالكامل، ومن دون فهم تطوّر النظام الدولي من حولها وموقعها فيه. حتى في ما يتعلّق بهويتها ونظرتها إلى ذاتها. تقرأ عن سلسلة كاملة من القياصرة والبيروقراطيين في موسكو وسان بيطرسبرغ وهم يحاولون «اللحاق» بالمركز الأوروبي والخروج من وضعيّة البلد الزراعي المتخلّف. عقدة القياصرة كانت في أنّ روسيا، على رغم حجمها الديموغرافي الكبير، ظلّت لاعباً هامشياً في أوروبا على مستوى الاقتصاد والتقانة والتراكم الرأسمالي («التحضّر»، كما كان الكثيرون يسمّون التحديث على الطريقة الأوروبية). والوزن الأساسي لروسيا في القارّة كان يأتي حصراً من حجم جيشها وقوتها العسكرية. هذا، على الهامش، هو ما جعل قياصرةً يدخلون أحلافاً ويسوقون الفلاحين الروس، بالملايين، في حروبٍ أوروبيّة لا تكون لهم فيها مصلحة حقيقية أو عداوة. فيسيرون يوماً إلى برلين، ويوماً إلى باريس. يوماً يحاربون نابليون ويوماً ألمانيا. وذلك كلّه في سبيل مكانة بلدهم ضمن «العائلة الأوروبية».

خاتمة ومقدّمة: النظام العالمي اليوم
الكثير من الذين درسوا النزاع الروسي-الغربي في أوكرانيا بشكلٍ موضوعيّ يحذّرون من أنّنا لا يجب أن ننجرّ إلى تنميطات دعاية الغربيين في توصيف عدوّهم بوتين. الرئيس الروسي، كما نعرف جيّداً، ليس سوفياتياً متخفّياً ينوي استعادة الاتحاد، بل هو في الأصل من النخبة «الانتقالية»، التي شهدت أسوأ أيام الاتحاد وفقدت الإيمان به وأشرفت على تفكيكه واستمرّت بعد ذلك وازدهرت. هو لم يعبّر عن رغبةٍ في تحدّي النظام العالمي أو استبداله أو تغييره، بل انضمّ إلى كلّ مؤسساته، وعرض يوماً على كلينتون أن تكون روسيا في «ناتو». يقول كاغارليتسكي - في كتابات أخرى - إن الصدمة الحقيقية للنخبة الروسية بعد التسعينيات كانت في الموقع الطرفي الذي احتلّته بلادهم في تقسيم العمل الدولي. هم افترضوا أن ما يعيق اندماج روسيا في المركز كانت الاشتراكيّة وأنّه، حين تتحوّل روسيا إلى الرأسماليّة، فهي ستصبح أخيراً مثل أوروبا.

الأساس هنا هو أنّه لا يمكن أن تفهم التاريخ المحلّي لبلدٍ مثل روسيا كـ«عمليّة داخليّة» بالكامل، ومن دون فهم تطوّر النظام الدولي من حولها وموقعها فيه


مشكلة هؤلاء، يقول كاغارليتسكي، هي أنهم يعتبرون أن هناك نموذجاً واحداً «صحيحاً» للرأسمالية، هو الذي نراه في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ولا يفهمون أن هناك أشكالاً عدّة من الرأسمالية: الهند وكينيا والمكسيك، وروسيا في التسعينيات أيضاً، هي كلها رأسماليات «حقيقية» وناجحة، يقول الكاتب الروسي، فيها ملكية خاصة وحرية سوق وتراكم أرباح. لذلك، حين راقب هؤلاء - بهلع - روسيا التسعينيات وهي تستحيل نهباً لرجال الأعمال، وتُفكّك البنية الصناعية فيها لبناء فنادق وملاهٍ يسيل فيها مال النفط، كان شعورهم، بتوصيف كاغارليتسكي، هو كشعور من استقلّ طائرةً وهو يعتقد أنها ستأخذه إلى ستوكهولم، فإذ به يجد نفسه في واغادوغو.
المسألة هنا ليست رمزيّة، والتشابهات مع روسيا القيصرية ليست خافية: دولة شبه-صناعيّة دورها محدودٌ في تصدير المواد الأولية (طاقة وأخشاب ومعادن، وحبوب في السنوات الأخيرة)، ووزنها الحقيقي في العالم لا يأتي من حجم اقتصادها أو مستواها التقني، بل من حجم جيشها وترسانتها النووية، سوف تكون هامشاً وطرفاً بالمعنى السياسي والاقتصادي: لن تدخل «ناتو»، ولا الاتحاد الأوروبي، ولن يكون بلدك جزءاً من سلاسل الإنتاج العالية القيمة، والصناعات المتقدّمة وأبحاثها واستثماراتها. أنت كازاخستان أو أذربيجان ولكن مع سلاح نووي، وليس لك «مجالٌ حيوي» وحقوقٌ ونفوذ خارج حدودك. بل إنّك حتى لن تصبح «نصف-طرف» مثل دول أوروبا الشرقية («أتباعك» السابقين)، حيث نشرت الشركات الألمانية مصانعها وأجزاء من عملية الإنتاج إلى تشيكيا وبولندا والمجر وغيرها، وأصبح المواطن هناك «أوروبياً» دخله يفوق دخل المواطن الروسي بكثير. وطالما أنّ روسيا لا تقبل بموقعها الهامشي وتبعاته، فهذه مشكلةٌ بنيوية لن تحلّها الحرب في أوكرانيا - كيفما انتهت.
ولكن هذا ليس موضوعنا هنا، بل هي مجرّد مقدّمة ومثال تاريخي يوضح ما نقصده حين نتكلّم، في المستقبل، عن مواضيع مثل التجارة الدولية أو دور النفط أو النظام الكوني المعولم وتمثّلاته في بلادنا. ليس من المعيب أن ترى ثراءً ورخاءً وأبراجاً برّاقة منيفة وأن ترغب بمثلها، هذا نزوعٌ إنسانيّ لا يمكن تلافيه، ولذلك هو أساس لعبة القوّة والإغواء على مرّ التّاريخ. المعيب هو أن تخلط بين هذه الأمور ومفهوم الجمال والفضيلة. كما مع مثال «فيتيشية السّلع»، فإنّ الزجاج البرّاق العاكس الذي يغلّف الأبراج الفخمة في إقليمنا عمله أن يخفي العمليّة الاجتماعية التي أنتجت هذا البرج، وعملنا في هذه السلسلة هو أن نكشفها.

* كاتب من أسرة «الأخبار»