«سوف نبني المدينة من الصفر. ستكون صديقة للدرونات ومركزاً لتطوير الروبوتات. نريد أن نخلق أمراً مختلفاً. نيوم هي مكانٌ للحالمين الذين يريدون خلق شيءٍ جديدٍ في العالم، شيءٌ خارق»«الروبوت الأوّل في نيوم سيكون نيوم نفسها»

«ليس دور نيوم أن تخلق وظائف للسعوديّين، دور نيوم هو أن تكون محور وظائف للجميع، في العالم كلّه»
ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان


لدينا صديقٌ يعيش ويعمل في الغرب، ولكنّه خسر عمله قبل أشهر ولبث في المنزل يبحث عن وظيفة، ومن الظاهر أنّ أهل زوجته هم من النّوع اللجوج المزعج الذي لا تريد أن تفشل أمامه. جاءته بعدها فرصة عملٍ، مغرية ماديّاً، ولكنّها في السعوديّة، وفي مشروع «نيوم». كان رأيي أنّه، إن كان الهدف هو أن يخرج من البطالة ويعمل هناك لسنتين أو ثلاث، يدفع ديونه ويتخلّص من محاضرات حماه ونصائحه، فليكن. ولكن قد لا يكون فعلاً حكيماً أن تعتمد على عملٍ هناك باعتباره بدايةً لحياة عمليّة مديدة.
حين خرجت تصاميم مشروع «نيوم» وصوره، منذ سنوات قليلة، رأى بعضهم أن المخطّط هو دعائي خيالي لن يتم تنفيذه يوماً (على غرار بعض المشاريع الغرائبية التي تم الإعلان عنها في دبي أيام الفقاعة العقارية ولم ترَ النور). الاهتمام انصبّ على المدينة الكبرى في قلب «نيوم»، المسماة «ذا لاين»، أي الخطّ. غالبيتكم قد شاهدت صوراً للمبنى / المدينة الذي من المفترض أن يضمّ تسعة ملايين ساكن عند اكتماله. ناطحة سحاب واحدة (أو بالأحرى اثنتان متقابلتان)، تمتدّ إلى 170 كيلومتراً ويبلغ ارتفاعها 500 متر، أي أكثر من برج إيفل مرةً ونصف المرة، وعرضها لا يزيد عن المئتي متر. والنتيجة تصميمٌ مستقبلي يبدو وكأنّه خرج من أفلام الخيال العلمي أو سلسلة Cyberpunk (تبيّن أن «نيوم» استعانت فعلاً بمصمّمين ورسامين يعملون في مجال الأفلام والخيال العلمي لكي يزوّدوهم برسومٍ وأفكار، وأحد المعماريين الأجانب، الذي صمّم منتجعاً في «نيوم» شرح فلسفته في البناء ووظيفته انطلاقاً من مفاهيم الفانتازي).


ولكنّ المسألة جدّية جداً وليس فيها مزاح. وآلاف الآليات تعمل حالياً في شقّ «ذا لاين» على ساحل الصحراء شمال غرب السعودية، وهي تحفر اليوم خندقاً هائلاً هو أساس المرحلة الأولى من المدينة والبنية التحتية لخدماتها (ستكون خطوط النقل والقطارات في أنفاق تحت الأرض). وقبل أيّام، مثلاً، تمّ توقيع عقدٍ بخمسة مليارات دولار لبناء بحيرة اصطناعية في جبال «نيوم»، وهي تتبع مشروعاً آخر لا يقلّ «فرادةً» عن «ذا لاين»: منتجع للتزلّج والرياضات الشتوية قرب العقبة.
عرفت، منذ أشهر، أنّ قناة «ديسكوفري» الأميركية هي على وشك بثّ برنامج وثائقي مفصّل عن «نيوم» وعاصمتها الجديدة، وأنّ محمّد بن سلمان نفسه ستكون له مقابلة فيه. لم يكن الوثائقي مفيداً لسببٍ بسيط، هو أنه كان فيلم دعاية: كلّ من تكلّم فيه يعمل في المشروع أو يرتبط به مادياً ويشرح لنا، على طريقة مسوّقي العقارات، كم هو مستقبلي وفريد. لم نسمع معمارياً أو اقتصادياً واحداً، معروفاً ومحايداً، يقيّم «نيوم» ويشرح لنا ماهيتها بواقعيّة (ثم تبيّن أن الشركة المنتجة لها ماضٍ في إنتاج أفلام لمصلحة الحكومة السعودية أو تهاجم خصومها، ولكن «ديسكوفري» عرضت نتاجها باعتباره وثائقياً).
الميزة الوحيدة في «الوثائقي» كانت في مقابلة وليّ العهد، إذ إنّها أكّدت لي شكّاً كان يساورني ولا أجرؤ على البوح به: أن محمّد بن سلمان نفسه هو المعماري صاحب التصميم. لا تصدّقوني، بل شاهدوا المقابلة؛ وفكرة أن يتحول الحاكم إلى معماري معروفة في هذا الجزء من العالم - فكّروا في مشروع «النخلة» في دبي واحزروا من اقترح هذا الشكل. في المناسبة، المخطّط الأصلي لـ«ذا لاين» كان منطقياً و«متواضعاً» مقارنةً بما نراه: الرؤية كانت لمدينة ممتدّة هي «بارك» أخضر كبير، كلّه للمشاة والمساحات العامة، وتتخلّله مشاريع سكنية ومراكز حضرية. وتكون تحته أنفاق للمواصلات والخدمات في ما يشبه «عموداً فقرياً» مدفوناً تحت الأرض. ولكنّ وليّ العهد لم يجده طموحاً كفاية فقال - حرفياً - «لماذا لا نطويه؟»، أي نجعله مبنى شاهقاً بارتفاع نصف كيلومتر، بدلاً من أن يكون مساحةً مفتوحة بعرض كيلومتر (لأن لا فرق بين الاثنين)؛ وها نحن نقف هنا اليوم.

حوار اقتصادي مع جهاز دعاية
المفارقة هي أنّه، قبل سنوات، كنت تجد عدداً معتبراً من الكتّاب والمعلّقين والخبراء السعوديّين الذين يقدّمون آراء نقدية في شؤون الاقتصاد والأعمال في بلدهم، وهم يعرفون ظروفه أفضل من الأغراب. ولكن، مع صعود وليّ العهد ورؤيته الجديدة، حتى صمتت كلّ هذه الأصوات: بعضهم اختفى، والبعض الآخر توقّف عن الكتابة، وامتنع من تبقّى عن أيّ نوعٍ من النّقد لسياسات الحكومة، وتحديداً مشاريعها الإستراتيجية الأثيرة على طريقة «نيوم». فوق ذلك، لمن لا يعلم، فإنّ الشعب السعودي (الجمهور العادي وليس الخبراء والمحترفين) ليس جاهلاً في شؤون الأسواق والأرقام، بل فيه أعلى نسبة ممّن يفهمون الأسواق ومصطلحاتها في الدول العربية. راجت في السعودية سوق الأسهم في وقتٍ مبكرٍ نسبياً عمّن حولها، ودخل في لعبتها عددٌ هائل من المستثمرين الصغار. لهذا، من العادي أن تسمع مواطنين من خارج مجال التمويل تماماً ولكنهم يتحدّثون عن العائد السنوي على السهم أو أنواع المشتقّات المالية أو تأثير الفائدة على هذه الفئة من الشركات - على طريقة محلّلي «بلومبرغ». هذه المعرفة تختلف بالطبع عن مواضيع الاقتصاد الكلّي، ولكن من لديه هذا الإلمام، لا بدّ من أنّه كوّن رأياً ونقداً حول السياسات «الثورية» التي تقوم من حوله. ولكننا ببساطةٍ لن نعرف ماهيتها ولن نسمعها، إذ لا يجرؤ أحدٌ على طرحها في المجال العام (ولو من جانبٍ تقنيّ بحت)؛ ولا يظلّ في السّاحة يكلّمك سوى المنشورات الدعائية وجهاز العلاقات العامّة السعودي.
هنا تكون قد أُنجزت المرحلة الأولى في درب الترويج والهيمنة: تبدأ بمنع النقد أو جعله مكلفاً، ثمّ تستميل النخبة والنجوم والمؤثّرين بمختلف أصنافهم: عقود، حفلات، تكريم، دعوات. ولن يطول الوقت حتى يبدأ هؤلاء بنشر انطباعاتهم عن السعودية «الجديدة»، وانبهارهم بالفندق الفخم والتنظيم الدقيق والنجوم الدوليين والـ«شيف» العالمي الذي أحضروه ليطبخ لهم. والنّاس يميلون إلى تقليد المشاهير والأقوياء، وإلى التماهي مع من يعتبرونه «مثالاً» لهم أو «أفضل» منهم أو مرجعاً لأذواقهم والحياة التي يرغبونها.
على الهامش: عملية نشر القيم «نزولاً» بين الطبقات قديمة ومعروفة. اللباس الأوروبي، مثلاً، انتشر في بلادنا حين اعتمده الخديوي في البلاط وفرضه على نسائه، فسرعان ما قلّدتهم نخبة القصر والأرستقراطية. ثمّ تبعتهم الطبقات الوسطى والدنيا - وإن بنسخٍ «محليّة» أو «مقلّدة» أقلّ جودةً وثمناً من الأصل.
أنتم تعرفون أنّ هناك أدبيات كثيرة ومدارس، منذ أواخر القرن التاسع عشر، في تصميم المدن والمفاهيم التي يجب أن ترتكز عليها واحتمالاتها المستقبلية. وفكرة أن تُخطّط حاضرةً جديدةً بالكامل لها عدد من السوابق والنماذج: المدينة التي تُبنى قصداً في عقدةٍ لوجستية ومفترق طرق، مثل شيكاغو، المدن الروسية التي صعدت حول موارد طبيعية وصناعات متخصصة ثمّ توسّعت خارجها، المدينة التي تبنى من الأساس لكي تكون عاصمةً مثل واشنطن أو برازيليا. وبعض هذه المدن الجديدة كان ينجح بدرجاتٍ متفاوتة، وأكثرها يفشل أو لا يحقق طموحه الأصلي. والسعوديون، تحديداً، لديهم تجربة طويلة في مشاريع «المدن الجديدة» التي يتمّ الإعلان عنها والبدء في أعمالها، في مختلف العهود، ثمّ تضمر أو تختفي.
المشكلة بالمعنى «الفلسفي» هي في أن يكون مشروع بهذا التعقيد والحجم (مدينة مليونية) قائماً حول تصميمٍ «مستقبلي» و«تجريبي» لهذه الدرجة، ويعتمد على مفاهيم وتكنولوجيات كثيرة بعضها ليس موجوداً بعد، وعلى كلّ هذه العناصر أن تنجح كما تخيلتها مسبقاً على الورق، وأن تعمل سويّةً لكي ينجح المشروع. هذا السيناريو، يقول قانون الاحتمالات، هو أقرب إلى المستحيل. أنت هنا قد راكمت عدداً كبيراً من «نقاط الفشل» المحتملة، مالية وتقنية واقتصادية (أو «الأجزاء المتحركة» التي يمكن لكلٍّ منها أن يتعطّل)، وكميّة من المتغيرات التي لا يمكن أن تتنبّأ بها. هذا يشبه، تماماً، أن تقرّر الزواج من إنسانٍ لديه عشر مشكلات و«تحديات» في شخصيته (وأمور جديّة وخطيرة: بخل على خيانة على تهوّر مالي، إلخ)، وهذه تعرفها. ولديه في الوقت ذاته أسرارٌ ونقاط عمياء أنت لا تعرفها بعد. ولكنّك مصرٌّ على أنّ لديك خطّة مضمونة لتلافي كلّ تلك الاحتمالات وجعله زوجاً مثالياً.
المدن تبنى غالباً حول «قلبٍ حيوي» واضح يحرّكها، سببٌ جغرافي أو بشري يعطيها امتيازاً ما ويبرّر وجودها. أمّا في «نيوم»، فالمنهج هو في معاكسة مفهوم «الميزة التفاضلية» البسيط بـ180 درجة، وهو يفتخر بذلك. حين تكون هناك بقعةٌ جغرافية، كمنطقة «نيوم»، لم تشهد - تاريخياً - استيطاناً مكثّفاً ومدناً كبيرة، فهناك في العادة أسبابٌ قوية لذلك: مناخ متطرّف، موقع قصيّ، ندرة في المياه والأرض المفيدة، إلخ. ما معنى أن تبني منتجعاً للتزلّج في الجبال الصحراوية؟ هو يعني أنّك ستتكلّف كثيراً، وباستمرار، وستضطرّ إلى نحت الطبيعة وتحويرها في أعمال إنشائية هائلة، وتنتج ثلجاً اصطناعياً على الدّوام، ولن تستفيد منه سوى لثلاثة أشهر في السنة. فيما من ينافسك في المجال نفسه في العالم، على بُعد ساعتين أو ثلاث بالطائرة، لديه هذه المقوّمات مجّاناً، أعطته إياها الطبيعة وهو يستثمرها. ما هي الفكرة هنا... هل تعتقد أنّك ستصبح أجمل من سويسرا؟

المال والنموذج
حتّى من الزاوية المعمارية البحت، ما هي ميزة بناءٍ عموديّ مكلف بهذا الشكل؟ أنت في صحراء مفتوحة ولكنك تبني كأنك في طوكيو. الطريف هو أن أدبيات «نيوم»، في تبريرها لمفهوم يقوم على إسكان تسعة ملايين إنسان في صندوقٍ كبير، تكرّر أن ميزة التصميم هي في تقليل «بصمته» على الأرض (footprint) وتأثيره على البيئة المحيطة. بربّكم انظروا لصورة أقمارٍ صناعيّة لتفهموا معنى البيئة المحيطة. والمفارقة المحزنة هنا هي أنّ «البيئة» الفعلية الوحيدة التي كانت في تلك المنطقة هي «بيئة بشريّة» تتمثّل في البدو المحليين من عشائر الحويطات وهم، على قلّتهم، تمّ ترحيلهم وسلبهم ديارهم ولم يتّسع لهم المشروع الكوزموبوليتي.
هناك معادلة تقول إنّ البناء المرتفع بعد حدّ معيّن - أكثر ستين أو سبعين طابقاً مثلاً - لا يعود اقتصادياً وتصبح كلفة الطابق الإضافي أكبر من العائد عليه، فأنت لا تفعلها إلا حين تكون المساحة نادرةً ومحدودة وسعر الأرض فلكيّاً والطلب عليها غير محدود. حتّى إنّ معماريّاً «تجاريّاً» و«بعد حداثي» من نمط الهولندي رم كوولهاس كان ينظّر ضدّ المباني العالية جدّاً، التي صمّم عدداً منها لزبائنه. ويصرّ على أنّه من المتاح إسكان العدد ذاته من الناس بشكلٍ أفضل بكثير على مساحة مشابهة. مدينةٌ بلا أبراج شامخة ولكنها كثيفة المباني وفيها استخدامٌ مختلف للفضاء. تخيّلوا، مثلاً، لو أن الجهد الذي بُذل في بناء أبراج وجزر اصطناعية في المنطقة العربية كان قد وضع لإنتاج مفاهيم جديدة وتجريبها، محلّيّة، عن «المدينة العربيّة» (من مواد البناء إلى التصميم إلى تفاعل التراث والناس والمناخ والتقنية). ناطحة السحاب، أصلاً، ليست «مثيرة» بالمعنى المعماري، إذ هي غالباً مبنى معزول عن محيطه، يحتاج إلى خدماتٍ كثيرة بسبب كثافته، وهو عبارة عن طابق واحدٍ يتكرّر.
عمق المسألة، بالطبع، هو اقتصادي وتنموي، وليس في المعمار والأذواق. أنت تريد أن «تجرّب» وتبني مدينة على شكل «حائط الجليد» في «لعبة العروش». حسنٌ، وأنا أريد أن أبني مصعداً إلى الفضاء، السؤال دوماً هو حول الثمن والعائد و«كلفة الفرصة» (هل وضع هذه الأموال هنا، وليس في مكانٍ آخر، هو الاستخدام الأمثل لها على المدى البعيد؟). السؤال الأوّل، بالطبع، هو من أين ستأتي بكلّ هذا المال؟ ونحن نتكلّم عن مبالغ تتضاءل أمامها المشاريع «الضخمة» و«المدن الجديدة» التي يبنيها الحكم المصري حالياً. من «نيوم» إلى البحر الأحمر و العلا والقدية والرياض وجدّة. الإجابة هنا - بالتأكيد - هي ليست الميزانية السعودية، فلا فائض يسمح بعُشر هذه الاستثمارات الخرافية (لفهم الصورة باختصار: حقّقت ميزانية الدولة عام 2022 فائضاً بسيطاً، وهي كانت من أفضل السنوات التي مرّت على سوق النفط منذ زمن، وراكمت فيها شركات الطاقة العالمية أرباحاً فلكيّة. وتلك كانت السنة الوحيدة التي لم تقع الميزانية فيها في عجزٍ خلال العقد الماضي).
تمويل هذه الرؤية سيأتي أساساً من «صندوق الاستثمارات العامّة» الذي تمّ تأسيسه لهذه الغاية وتمّ تحويل أكثر أصول البلاد واحتياطها واستثماراتها إليه. يمكن أن نشبّه هذه المؤسسة بـ«خزنة البيت»، الصندوق أو الدرج الذي تغلقه بمفتاح أو قفل، ويكون فيه جلّ ثروتك: الكاش، الذهب وصيغة العائلة، صكوك الملكية والأسهم، إلخ. فوق ذلك، فإنّ الصندوق سيستدين من الأسواق لتمويل الرؤية وبناء صروحها والأرجح أنّ ما استدانه، خلال سنوات قليلة، أصبح يقارب المئة مليار دولار (هذا سهلٌ حين تفتتح استثماراتك بإنفاق المليارات على الرياضة وحدها، وشراء نوادي الكرة ودوري الغولف للمحترفين - قبل أن «يشتري» الصندوق لعبة الغولف العالمية، عرض على تايغر وودز وحده 800 مليون دولار لكي ينتقل إلى الدوري الذي يرعاه رأس المال السعودي).
محمّد بن سلمان نفسه هو المعماريّ صاحب التصميم، وفكرة تحوّل الحاكم إلى معماريّ معروفة في هذا الجزء من العالم. وهنا تكون قد أُنجزت المرحلة الأولى في درب الترويج والهيمنة: تبدأ بمنع النقد أو جعله مكلفاً، ثمّ تستميل النخبة والنجوم والمؤثّرين لينشروا بعدها انبهارهم بالمنجز


الموضوع الأعمق هو في «النظرية التنموية» خلف هذه المشاريع البرّاقة. ستكتشف بسهولة أمراً مشتركاً بينها. ما هي أكثر مشاريع «نيوم»؟ فنادق وعقارات. العلا؟ فنادق وعقارات. القدية؟ مدينة ملاهي وفنادق وعقارات. حتى أنّ مشروعاً لإحياء مدينة تراثية مثل الدرعية يتحوّل أكثره إلى شيءٍ على طريقة «سوليدير»: عقارات وفنادق وسياحة. مرافىء اليخوت وملاعب الغولف، التي يتم الإعلان عنها في كلّ مكان، هي فعلياً نقاط جذبٍ للتطويرات العقارية الفخمة من حولها (لأنّ هذا ما ينقصك: ملاعب وعقارات). أكثر من ذلك، الغالبية العظمى من هذه الاستثمارات مخصّصة حصراً للسياحة الباهظة الثمن، جمهور الواحد في المئة: فنادق محفورة في جبالٍ في «نيوم»، أو على جزرٍ وخلجان، لا يمكن أن تصلها إلا بالقارب أو الهليكوبتر. جزرٌ كاملة يتمّ تطويرها ووصلها ببنى تحتية من أجل عشراتٍ من الفلل.
هذا النموذج بالذات (سياحة، استثمار خارجي، عقارات، لوجستيات) ستجده يتكرّر في كلّ أرجاء المنطقة، من طنجة إلى مصر، ومن دبي إلى العراق، وغداً في سورية (حتى غزّة كانوا يعدونها بناطحات السحاب). حتّى دولاً «غنية برأس المال»، كالسعودية، تنسخ الوصفة نفسها مع أنّ التحدّي في حالتها هو ليس في جذب دولارات السياح والأجانب - التي لا تحتاجها - بل في تشغيل المواطنين الكثر بشكلٍ، ورفع قيمة عملهم وتدريبهم وإنتاجيتهم، وهذا، باختصار، معنى التنمية.

خاتمة: أنماط الثروة
سوف نناقش هذه الأمور بتفصيلٍ في الأسابيع القادمة ولكن، إن كانت هناك من نقطةٍ نظريّة وحيدة نريد عرضها في هذا المقال، فهي في هذه الخاتمة، وتتلخّص في أنّ مفاهيمنا الرائجة عن «الريع» وأثر النفط و«المرض الهولندي» وغيرها تحتاج إلى إعادة نظرٍ وتقييم. الانطباع السائد عن أنّ الدّول الغنيّة بالموارد لديها ميلٌ طبيعيّ إلى أن تصبح «ريعيّة» أو غير تنافسية، أو توزيعية «كسولة»، هي نظرةٌ تبسيطية وميكانيكية بعض الشيء.
لا توجد حتميّات هنا. بلادٌ مثل أميركا وكندا وهولندا والنروج وبريطانيا هي كلّها بقاعٌ غنية بالطاقة ومواردها، مثلاً، ولكنها تمتلك اقتصاداً حديثاً منتجاً وتنافسياً ومندمجاً على هذا الأساس في السوق الدولية. لماذا، من جهةٍ أخرى، لديك نموذج كازاخستان وأذربيجان وروسيا والسعودية؟ هنا نعود إلى الأكاديمي الروسي كاغارليتسكي وملاحظة مهمّة يعطيها حول النفط والريع. هو يقول إنّ هناك فعلياً طريقان قد يسلكهما البلد في استخدامه للثروة الطبيعيّة، الأوّل يتلخّص في أن تجعل موارد الطاقة بمنزلة «عامل دعمٍ» لنظام إنتاجٍ حديثٍ ومتقدّم موجودٍ لديك أو تبنيه: عبره أنت تؤمّن لصناعاتك طاقة رخيصة، تعطي اقتصادك تنافسية، تتطوّر تقنيات استخراج وشركات عالمية. وإن كان هناك فائضٌ مالي من التصدير أو الضريبة، فأنت تنفقه على دعم التعليم والأبحاث، وعلى الصحّة وتحسين أحوال عمّالك ومهاراتهم. أميركا النيوليبراليّة، يقول كاغارليتسكي، هي مثالٌ على هذا النّمط (في الأيام الأخيرة، حين بدأت صادرات الغاز الأميركية بالتأثير على الأسعار وتنافسية الاقتصاد في الداخل، سارعت الإدارة إلى إيقاف التراخيص في مشاريع الغاز المسال، فالأولوية هناك). لدى النروج، في الظاهر، صندوق سيادي كبير في الخارج تراكم فيه عائدات النفط، ولكن ذلك يعود إلى أنّ اقتصادها أصلاً منتجٌ وحديث، والاستثمار المجدي فيه قد وصل إلى التخمة، فأي دولارٍ تضيفه إلى السوق لن يصنع إلّا تضخّماً.

«البيئة» الفعلية الوحيدة التي كانت في تلك المنطقة هي «بيئة بشريّة» تتمثّل في البدو المحليين من عشائر الحويطات وهم، على قلّتهم، تمّ ترحيلهم وسلبهم ديارهم ولم يتّسع لهم المشروع الكوزموبوليتي. أما تمويل المشروع، فسيأتي من «صندوق الاستثمارات العامّة» حيث أكثر أصول البلاد واحتياطها


في مرتبةٍ بين المرتبتين في التعامل مع النظام الدّولي نجد أمثلةً مثل الاتحاد السوفياتي، الذي كان يصدّر النفط والغاز إلى الغرب، ولكن هدفه من ذلك (أقلّه في النظرية) كان تمويل استيراد التكنولوجيا وتحديث اقتصاده وإنتاجيته. أو دول عدة في السبعينيات (منها الجزائر والعراق وليبيا) حاولت استخدام عائدات النفط ضمن خططٍ داخلية للتحديث والتصنيع - بغض النظر عن رجاحتها وما حصل لها - وهي لم تراكم صناديق سيادية وأرصدةً في الخارج.
أمّا الطريق الثاني لاستخدام الثروة، يقول كاغارليتسكي، فهو في أن تندمج في السّوق العالمية باعتبارك مصدّراً للطاقة الخام، وأن تبني اقتصادك حول هذه الدولارات التي تحصّلها من الخارج؛ وهنا أيضاً سوف تصيب بلدك عوارض متشابهة. ستنتعش قطاعات معيّنة وتتضخّم في هذا البلد الريعيّ: المصارف، العقارات الفخمة، والمؤسسات التي تتصل مباشرة باستخراج النفط وتدوير أمواله. يشير كاغارليتسكي إلى أنّ روسيا التسعينيات، وسط انهيار المؤسسات الصناعية السوفياتية، قد شهدت نهضةً حقيقية في بناء الفنادق والعقارات والمطاعم، فمن هنا كانت تمرّ أموال النفط وهي تدخل البلد. هذا السياق سيولّد، بطبيعة الحال، تركّزاً للقوة المالية والثروة في أيدي جماعات معيّنة تنهل من هذه «القناة» (التي تصل البلاد بالاقتصاد الدولي) أو هم يقفون حرساً على بوابتها، سواء أكان اسمهم أوليغارشيين أم شركات خاصة أم أمراء.
فوق ذلك، من علائم هذا النمط أنّه يشجّع على تصدير رؤوس الأموال إلى الخارج وبناء استثمارات وصناديق ضخمة في الأسواق الغربيّة. الأوليغارشيون الرّوس لم يُخرجوا، طوال عقودٍ، قسماً كبيراً من ثروتهم إلى مصارف الغرب فقط لأنهم غير وطنيين أو يخافون من المصادرة، بل أيضاً لأسباب مالية «عقلانية»، يقول الأكاديمي الروسي. اقتصاد الطاقة «الطرفي» بطبيعته يحدّ من الاستثمار ويشجّع على الركود في المدى البعيد. هنا أنت لا تمتلك شركات كبرى معقّدة مشتبكة مع الاقتصاد الدولي، ولا «سياسة صناعية» وطنية مثل الصين، فلا مجال لأن تنفق عشرات المليارات في الأبحاث والاستثمارات المنتجة. بل إنّك، إن كانت لديك أصلاً بنية صناعيّة وبحثية، كحال روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فأنت سوف تميل إلى تفكيكها واستبدالها بنشاطاتٍ خدميّة واستهلاكية بسيطة، يشهد كاغارليتسكي. من هنا، إن كنت أوليغارشياً تمتلك، بفضل تصدير النفط، مورداً مالياً هائلاً، فماذا ستفعل بكلّ هذه العائدات بعد أن تبني ما يمكن بناؤه من فنادق ومرافىء يخوت وناطحات سحاب في موسكو وسان بطرسبرغ؟ سوف «تضطر» إلى إخراج هذه الأرصدة وتشغيلها في سوق مالية يمكن أن تستوعبها، كأميركا وبريطانيا (وهذا أيضاً يفسّر لماذا شهدت روسيا، حين «انقطعت» عن أكثر الأسواق المالية في السنوات الأخيرة، نموّاً في الإنتاج والاستثمار رغم ظروف الحرب).
فلنبقِ في أذهاننا هذه النقطة حين نناقش نمط الإنتاج والخيارات في بلادنا: المسألة ليست في أن تندمج في السوق الدولية أو لا، بل هي في الطريقة التي تندمج بها في هذه المنظومة، والدّور الذي تلعبه فيها. النقطة الثانية التي لا يمكن أن ننساها هنا هي أنّ «نيوم» و«خطّها» ومنتجعاتها يقابلها على الطرف الآخر من البحر الأحمر اليمن والصومال، وهي لا تبعد عن غزّة أكثر من ثلاثمئة كيلومتر.