في كلّ مرّةٍ تحصل فيها أزمة اقتصادية في تركيا، أو تنخفض العملة أو تبدأ رؤوس الأموال بالهروب من البلد، تتكرّر في المنشورات الغربية المعروفة سرديّةٌ واحدة حول أسباب المأزق وجذوره والحلول المطلوبة. والرواية هنا بسيطة وواضحة لدى هؤلاء الخبراء، اللوم يقع بوضوح على سياسات محدّدة، خلفها شخصٌ واحدٌ محدّد، هو رجب طيّب أردوغان و(حتى نستخدم تعبيرهم الأثير) سياساته الاقتصادية «غير الاورثوذوكسية». التعبير هنا يشير الى أنّ الرئيس التركي لطالما ضغط على مصرفه المركزي لكي يعمل بطرقٍ تخالف ما تنصّ عليه المبادىء الاقتصادية. أنت ستدفع الثمن حين تخالف هذه «البديهيّات»، يقول هؤلاء، وآلهة الاقتصاد هي التي تنتقم، في تركيا، ممّن دنّس شرائعها.النسخة الرسميّة هنا، باختصارٍ وتبسيط، هي أنّ أردوغان يرفض أن يتفاعل مع الأسواق كما يفترض به أن يفعل بحسب النظرية «الارثوذوكسية». حين تواجه العملة التركيّة انخفاضاً في قيمتها أو يتعاظم التضخّم، تنصّ قواعد الاقتصاد على رفع معدّل الفائدة لتبريد السّوق وجذب المودعين الى الليرة التركيّة. الّا أن اردوغان يصرّ على السير بخلاف ذلك ويمانع في رفع الفائدة، ولو كلّفه ذلك أن يتدخّل المصرف المركزي مباشرةً في السوق ويستهلك عشرات المليارات من الاحتياطات الأجنبية. بل أكثر من ذلك، فإنّ الزعيم التركي يمارس منذ وصوله الى السلطة سياسةً تبقي معدّلات الفائدة في تركيا منخفضةً بشكلٍ «اصطناعيّ» عمّا يجب أن تكون عليه. لماذا هو يصرّ على هذه السياسات «الاشكالية»؟ هنا تتعدّد التفسيرات في الأدبيات الغربية: لأن أردوغان مهووسُ بتحفيز النموّ بلا حسابٍ للعواقب، لأنه لا يريد ركوداً قبل الانتخابات القادمة، بل يؤكّد بعض المراقبين أنّ خلف فلسفة أردوغان هذه عقيدةٌ دينية، اسلاميّة، تذمّ الفائدة وتحرّم الرّبا، فهو يستنكف اذاً عن رفع الفائدة لأسبابٍ ايمانيّة غير عقلانيّة.
تركيا هي حالةٌ مثاليّة لتفحّص بعض المفاهيم السائدة وتفكيكها، ولو احتاجت الى شرحٍ «تقنيّ» بعض الشيء، قبل أن نعود الى المنطقة العربيّة (وإن كانت هذه الأمور لا تهمّك ففي وسعك ببساطة أن تتجاوز هذا المقال، ولن يعرف أحد). تعترف المراجع الغربيّة التي تنتقد «الاقتصاد الاردوغاني» بأنّ الرّجل قد قاد بالفعل أطول مرحلة نموٍّ مستدامة في تاريخ تركيا، بدءًا من وصوله السلطة عام 2003. النظريّة هنا هي انّك، حين تخفض الفوائد دون حدّها «الطبيعي»، فأنت تحفّز الانفاق والاستثمار. العائد على أموالك الجامدة قليل، والأسعار ترتفع من حولك كلّ سنة، ما يعني أن قيمة مالك، لو أودعته لسنوات ولم تخاطر به، ستكون في المستقبل أقلّ من قيمته اليوم. انت هكذا لديك حافزٌ بأن تفعل به أيّ شيءٍ: تستثمره، تشتري أسهماً أو عقارات، توسّع مصنعك، أو حتى تنفقه وتشتري به سلعاً، ولا تتركه في حساباتك المصرفيّة. هكذا ينتعش السّوق بسبب دفق المال الرخيص وارتفاع الطّلب. بمعنى آخر، طبّقت تركيا النموذج المعاكس، بالكامل، للنموذج اللبناني بعد الحرب الذي تلخّص برفع أسعار الفائدة، بشكلٍ اصطناعيّ، بغية جذب الودائع الى البلد ومصارفه. هنا، انت كنت في الوقت ذاته تجعل أيّ استثمارٍ آخر في البلد «غالياً» وغير مجدٍ.
صادف أنّي قد زرت تركيا مرّاتٍ عدّة في الماضي السحيق، أعوام 94 و95 و96، أي أنّني أعرف تماماً كيف كانت «تركيا قبل أردوغان»، والفارق الذي تفعله عشرون سنةٍ من النموّ العالي المستمرّ في بلدٍ، وكيف تقلب أحواله وتغيّره بالكامل. قد يصعب على البعض أن يفهم سرّ شعبية أردوغان وحزبه، وانتصاراتهم الانتخابية، من غير أن يأخذوا في الحسبان هذه التجربة التحوليّة التي عايشها عشرات الملايين من الأتراك خلال العقدين الماضيين.
أنا أعرف تركيا حين لم يكن هناك من فارقٍ كبير (في مستوى الحياة والخدمات) بين الريف التركي ونظيره السوري على الجانب الآخر من الحدود. وحين كانت مدنٌ سورية مثل حمص أو حلب أكثر مدنيّة من حواضر تركية «ثانوية» كأضنة أو انطاكيا أو مرسين. أعرف اسطنبول قبل أن يكون فيها مترو، وقبل أن تصبح (في جانبٍ مهمٍّ منها) مدينة اوروبية معولمة. كانت ساحة «تقسيم» في اسطنبول أقرب الى ساحة النجمة في صيدا: مطاعم دجاج ومحلّات «فليبّر» وصالات سينما رخيصة. وكان التوكتوك الذي يوزّع جرار الغاز على المنازل يمرّ في شوارع المدينة في الفجر ويوقظك يوميّاً بلحنه الطنّان المزعج. يومها، لو قال لك تركيٌّ، كما كان يحلو لهم أن يتوهّموا، «نحن جزءٌ من اوروبا»، كنت تردّ عليه براحة وسرعة: «كلّا يا عزيزي، أنظر من حولك، نحن في العالم الثالث». اسطنبول قبل مطارها الجديد والمباني المتعالية، حين كان هناك «مول» كبير واحد يذهب اليه الجميع. بعد عشرين سنةٍ من النموّ (بمعدّلاتٍ لم تعرف مثلها الا دول شرق آسيا) أصبحت تركيا في عالمٍ آخر. كانوا يأخذونك بالقوّة لتزور الجسر الوحيد، القبيح، الذين كانوا قد دشّنوه على البوسفور ويتوقّعون منك ردّة فعل: «انظر، نحن بنينا هذا». تنفّذ الشركات التركية اليوم، دورياً، مشاريعاً وانشاءات أكبر منه بكثير، سدودٌ ومطارات وأنفاق ومحطات كهربائية حول العالم، وقد أصبحت اسطنبول ومطارها عقدةً دولية للسياحة والمواصلات.

روايتان وخلاصة
هناك في موضوع «الاقتصاد الأردوغاني»، بالطبع نسخةُ مضادّة، وإن كنت لن تقرأها في المطبوعات الدوليّة، ولكنها ايضاً تحوي جانباً من الحقيقة. بدايةً وقبل كلّ شيء، فإنّ نظريّة أنّ أردوغان هو اسلامي متعصّب يريد اخضاع قواعد السوق للشريعة هي تفسيرٌ مضحك. رجب طيّب أردوغان يأتي، من قبل أن يمارس السياسة، من محيط تجّارٍ وصناعيّين. عمله وحياته، شركائه وأقاربه، والكثير من وجوه حزبه، كلّهم في مجال الأعمال. بمعنى آخر، مهما كان رأيك فيه وفي سياساته، فإنّ أردوغان هو بتعابيرنا «ابن سوق»، وليس ساذجاً أو جاهلاً في هذه الأمور، ولا هو شيخٌ بعيدٌ عن الدنيا، يريد استنباط قواعد الاقتصاد من النصّ الديني.
ثانياً، قد يكون في حوزة أردوغان، ان اتّهمته بتجاهل قواعد الاقتصاد وقوانينه، ردودٌ ليست بلا وجاهة. ما يحصل هو أنّه حين يهتزّ الاقتصاد، فأنت تطلب منّي أن أرفع الفائدة على الليرة التركية لاغراء المودعين. وهذا لأنّك تفترض أنّ معدّل الفائدة هو وحده ما يحدّد سلوك النّاس في هذا المجال. ولكن الحقيقة هي انّه، في دول العالم الثالث مثل تركيا أو لبنان أو مصر، فإنّ العامل الأهمّ في تفكير المستثمر وحساباته هو نظرته الى القيمة المستقبلية لهذه العملة. بمعنى آخر، إن كان يعتبر أنّ الليرة التركية تتعافى فهو سيميل الى الايداع فيها، وإن كان يظنّ أنّ الليرة هي في طور الانهيار فهو لن يودع بالليرة مهما أعطيته من فائدة. وما هو أهمّ مؤشّرٍ يستخدمه الناس للتنبوء بوضع العملة في بلدٍ نامٍ؟ حالة الاقتصاد والسّوق. هنا، سيقول أردوغان، حين أواجه خطر ركودٍ فأنت تريدني أن أرفع الفائدة وأعمّق هذا الرّكود بدلاً من تحفيز الاقتصاد. وما الذي سيراه المستثمر هنا؟ سوقٌ تنكمش وأعمال تتقلص وشركات تمتنع عن دفع قروضها، فيبتعدون عن الليرة وتنهار العملة أكثر، فيصبح لزاماً أن أرفع الفائدة مجدّداً. كلّا، أنا لن أدخل في هذه الدوّامة. وقبل هذا كلّه، حين تكون دول العملات الرئيسية في العالم، من اميركا الى اوروبا الى اليابان، تقوم بعمليات «التسهيل الكمّي» وطبع التريليونات لتحفيز اقتصادها وخدمة شركاتها، فهل تريدني حقّاً أن التزم - في تركيا - بمبادىء عفا عليها الزمن، من نمط «عدم تدخل المصرف المركزي في الاقتصاد»؟
فلنبتعد خطوةً عن المرافعتين أعلاه ونحاول أن نفهم، على المستوى التقني، أساس الاشكال الاقتصادي الذي نتحدّث عنه، ولماذا أصلاً تنحو الليرة التركية باستمرار صوب الانخفاض، والاقتصاد صوب التضخّم؟ هذا يعود أساساً الى عارضٍ جانبيٍّ معروف لتوسّع الاقتصاد وارتفاع الطّلب: حين يزداد الاستهلاك يرتفع معه الاستيراد من الخارج، وحين يظلّ الاقتصاد «ساخناً» على فترة طويلة فأنت تخاطر بالتضخّم وارتفاع الأسعار والفقاعات المالية إن لم تلجمه. حتى نبسّط الموضوع، فلنتخيّل المثال التالي: أنّنا كلّنا، جميعاً، قد حصلنا غداً على زودةٍ في راتبنا بقيمة ثلاثين في المئة. ما الذي سنفعله؟ سنستهلك أكثر، سنذهب جميعاً للتسوّق، كلٌّ على طريقته. حسنٌ. هنا استهلاكنا قد ارتفع ولكن انتاجنا، جماعياً، لا يزال حيث هو. من اين اذاً سيأتي هذا الفارق في الاستهلاك؟ من الاستيراد.
لهذا السبب، لو أنك رسمت خطّاً بيانياً يوضّح معدّل النموّ التركي عبر السنوات، وبجانبه خطٌّ آخر يمثّل الميزان التجاري التركي، فإنّك ستجد أنّ الخطّين - منذ عام 2003 - يصنعان شكل (>): واحدٌ يرتفع والثاني ينخفض بموازاته، والعجز التجاري التركي يتّسع بإضطراد مع ازدياد النموّ. تركيا التي كانت تعتبر في القرن العشرين رائدة في سياسات التصنيع عبر «استبدال الواردات»، وتقليل الاستيراد الاستهلاكي الى أقصى حدّ؛ ثمّ أصبحت في التسعينيات موطن «نمور الأناضول» وشركات تحاول تصدير كلّ ما يمكن تصديره. تحوّلت تركيا هذه، خلال مرحلة «الازدهار» تحديداً، الى بلدٍ يسجّل عجزاً تجاريّاً كبيراً و»بنيوياً» مع الخارج، كأنه لبنان أو بريطانيا (توجد سنتان، على طول هذه المدّة، انقلب فيها الميزان التجاري التركي الى فائض، عام 2008-2009 وعام 2020. وسوف نعود لشرح هذه الاستثناءات وكيف هي تثبت ما نريد أن نقوله). بالنتيجة، سوف يكون عليك أن تعوّض هذا العجز بشكلٍ ما، امّا عبر أموالٍ واستثماراتٍ أجنبيّة تدخل البلد (وهذه قد خدمتك لفترةٍ طويلة ولكن لا يمكن الاعتماد عليها الى الأبد)، أو عبر تدخّل المصرف المركزي وانفاق دولارات الاحتياط (وهو ما يمكنك أن تفعله ولكن لوهلة)، أو عبر خفض قيمة الليرة. وتركيا تعيش في السنوات الماضية على وقع مزيجٍ من هذه السياسات.

قوانينٌ متعدّدة
الفكرة الأساسيّة هنا هي أنّ «قوانين» علم الاقتصاد مفيدةٌ للغاية، ولكن في الاطار المحدّد المخصّص لها. بمعنى آخر، يجب أن نفهم أنها نماذج نظريّة وليست قوانين طبيعية، نستهدي بها منهجياً ونحن نعي أنها لا تتحقّق - بصورتها الاكاديمية المثالية - الا في ظروفٍ نظرية مثالية لن تتوافر في العالم الحقيقي. أهمّ من ذلك، لا يجب أن ننسى أن «الاقتصاد» و»السوق» و»رأس المال» هي في جوهرها عمليات اجتماعيّة، في وسعك أن تستخدم أرقاماً ونماذجاً لـ»تمثيلها» على المستوى النظري ولكن لا يمكن أن تخفي طابعها الانساني والسياسي، فهو يقبع خلف كلّ شيء. من هنا، فإنّ فهم هذه الأرقام ومعناها في بلدٍ ما لا يمكن أن ينطلق من النظرية المجرّدة، بل من البنية الطبقية لذاك البلد، ونمط التراكم الخاصّ به، وتاريخه وموقعه في النظام الدولي. على الهامش: غالباً ما يتمّ استخدام «العلمويّة» هذه لغاياتٍ سياسيّة. في أيّ نقاشٍ سيحاول كلّ طرفٍ تقديم امتيازٍ معياريّ (normative) لموقفه مقارنةً بالبدائل: حجّتي هي الأصحّ، الأكثر قانونية، الأكثر أخلاقيّة، الخ. ولا يوجد في هذا الاطار - وفي العالم الحديث - تشريعٌ لموقفك أقوى من «العلم»، والاقتصاد يفتح المجال واسعاً لمثل هذه الألاعيب. يلفت الأمجد سلامة كيف انّه، خلال الأزمة الاقتصادية اللبنانية، تمّ «تفخيخ» علم الاقتصاد والخطاب الاقتصادي (weaponization) في البلد، أو تحويله الى سلاحٍ ايديولوجي يتمّ شهره في الساحة السياسية، ولكن باسم «العلم» و»الخبراء»؛ وهذا النمط سوف يتمّ تكراره في أيّ بلدٍ مجاور ينهار اقتصاده ويحتاج أهله فجأة الى اجابات.
عودةً الى المثال التّركي. حين نقول أن النموّ المتسارع وتدفّق المال من الخارج قد غيّر عوائد الأتراك واستهلاكهم، وأوقع البلد في عجزٍ تجاري، فما هي «الترجمة الاجتماعية»، على الأرض، لهذا الكلام؟ أساس القضيّة (وهي قد شرحناها سابقاً)، انّه في دولٍ طرفيّة مثل تركيا، لن تتوزّع ثمار النموّ بشكلٍ متساوٍ على الجميع. سوف ترتفع مداخيل العمّال بالطّبع، نسبياً، ولكنّ حصّة الأسد سوف تذهب لأصحاب الشركات والأصول التي تزداد قيمتها وأرباحها، والى الطبقة الوسطى المحترفة الأكثر تماساً مع الاقتصاد المعولم. بالنسبة الى هذه الفئات، تغيّرت أنماط استهلاكها وحياتها بشكلٍ نوعيٍّ، وليس في الكمّ فحسب. كان التّركي الميسور يقتني سيّارة في الماضي ايضاً ولكنه كان، في السبعينيات والثمانينيات، يشتري سيّارة قديمة مستعملة للمرّة الثالثة، أو (في التسعينيات) سيّارة كورية رخيصة يتم تجميعها محلياً. أمّا اليوم، فهو يسحب قرضاً من المصرف ويشتري بالتقسيط سيارة اوروبية مستوردة. كان يقضي اجازةً مع عائلته في الاجازة، ولكن في طرابزون أو ازمير، فأصبح من المعتاد أن تسافر العائلة كلّ سنةٍ الى فرنسا أو اسبانيا. كان الأولاد يدرسون في جامعات تركيّة فأصبحوا يطمحون للماجيستير في لندن. كان يأكل شوكولا «اولكر» فأصبح يشتري شوكولا سويسري، وهكذا.
أردوغان مهووسُ بتحفيز النموّ بلا حسابٍ للعواقب، لأنه لا يريد ركوداً قبل الانتخابات القادمة، بل يؤكّد بعض المراقبين أنّ خلف فلسفة أردوغان هذه عقيدةٌ دينية، اسلاميّة، تذمّ الفائدة وتحرّم الرّبا، فهو يستنكف اذاً عن رفع الفائدة لأسبابٍ ايمانيّة غير عقلانيّة


هذا النّمط من الاستهلاك، ولو كان لأقليّة في المجتمع، يتحوّل بسرعة الى عجزٍ تجاري مع الخارج وضغطٍ على العملة. نتذكّر هنا انّه في سنتين وحيدتين (2009 و2020) قلب الميزان التجاري التركي الآية وحقّق، فجأة، فائضاً. مع أنها كانت سنوات قلاقل، سنة الأزمة المالية العالمية وسنة فايروس «كوفيد»، سنوات لا سياحة فيها والاقتصاد العالمي متوقّف. هذا سببه أنّ الناس، وتحديداً كبار المستهلكين، يقلّلون من انفاقهم الفائض في أوقات الأزمات. هذا لا يعني أنّ العمّال الأتراك صاروا يأكلون أقلّ أو يحرمون أنفسهم من الأساسيات والطّاقة، فهذه الاحتياجات ليست «ليّنة» ولا تتأثّر كثيراً بالخضّات السريعة. ما يتمّ اختزاله في هذه الحالات هي أمورٌ مثل السيارات والسفر والإنفاق الذي يمكن تأجيله، وهذا كان كفيلاً بقلب العجز التركي مع الخارج الى فائض.
ما نريد الوصول اليه هو أنّ «الدولار» حين يدخل الاقتصاد اللبناني يكون له فعلٌ مختلفٌ تماماً عن دوره في الاقتصاد الفرنسي، فالبنية الاجتماعية في البلدين و»الخريطة الطبقية» تختلف بالكامل، وعلاقة كلٍّ منهما بالنظام الدولي ليست من الطبيعة ذاتها. على سبيل المثال، لا توجد في فرنسا طبقة كاملة من النّاس المحترفين يحاول الجميع الانتماء اليها، ويكون امتيازهم الأساسي هو انّهم يتكلّمون العربيّة، ودرسوا في جامعاتٍ ودولٍ اسلاميّة، ولديهم اتصال بالوظائف والرساميل التي يديرها العرب (ويكون راتبهم، بفضل ذلك، ثلاثة أضعاف راتب الموظف الفرنسي). هذه الحالة، التي اعتدناها في دول الأطراف، لا يمكن تخيّلها في سياقٍ آخر. هناك نخبةٌ في فرنسا، ولكنها تخرج أساساً من مؤسسات وطنية، ولها خبرات ومهارات يحتاجها نمط الانتاج الفرنسي، وهي تلعب دوراً (لا يزال مهمّاً) في قلب الاقتصاد المعولم. من هنا تخرج أحياناً النظرية «المتشائمة»، التي تشير الى مثال تركيا وتقول: حتّى «النجاح» في دول الأطراف هو بطبيعته واهٍ ومؤقّت، يصل الى سقفٍ ثم ينقلب ضدّه، تبدأ الاختلالات بالظّهور وتصبح أمام خيار أردوغان - فهل هذا صحيحٌ وحتميّ؟

خاتمة
الاجابة المختصرة هنا هي بالنّفي. كما أسلفنا أعلاه، فإنّ هذه «القواعد» الاقتصادية ليست طبيعيّةً ولا تحصل أوتوماتيكيا بفعل «السوق الحرّ»، بل هي نتاج خياراتٍ تاريخيّة ومؤسسية تراكمت على مدى العقود الماضية. قبل عشرين سنة، لم يكن من المتاح أصلاً للمواطن التركي أن يحتفظ بحسابٍ بالدولار، أو للصناعي أن يقترض بعملة أجنبيّة. أردوغان أشرف على المرحلة الأخيرة من الاصلاحات الليبرالية في تركيا وفتح القطاع المالي على الخارج. كنت قبل ذلك، ان احتجت لدولاراتٍ، عليك أن تذهب الى مبنىً رسميّ كبير، تريهم هويتك ووثائقك وتشرح سبب حاجتك للعملة. كلّ نظام انتاج يأتي مع نمط حياةٍ يناسبه، ويأتي ايضاً مع أخلاقياتٍ وقيمٍ جديدة. في عهد «استبدال الواردات» والصناعات الوطنية، كنت قد تتعرّض للتنمّر والضرب من الأولاد ان نزلت الى الشارع وانت تلبس ماركةً أجنبيّة أرسلها لك أقاربك في الخارج. أمّا في عصرنا الحالي فأنت تفتخر وتمتاز بأن يكون استهلاكك الشخصي، ونمط حياتك وأذواقك، شبيهاً بحياة الفئة «المعولمة» ولا تشبه شعبها.

في دولٍ طرفيّة مثل تركيا، لن تتوزّع ثمار النموّ بشكلٍ متساوٍ على الجميع. سوف ترتفع مداخيل العمّال بالطّبع، نسبياً، ولكنّ حصّة الأسد سوف تذهب لأصحاب الشركات والأصول التي تزداد قيمتها وأرباحها والى الطبقة الوسطى المحترفة الأكثر تماساً مع الاقتصاد المعولم


ما نقصده هو أن الحكومة التركية قد سارت بشكلٍ مقصودٍ وواعٍ، منذ أيّام تورغوت أوزال، في طريقٍ دمجها بهذا الشكل في الاقتصاد المعولم، وهذا كان يحتاج الى خلق شبكةٍ كاملة من القوانين والمؤسسات والتنظيمات، وهو لم يحصل بشكلٍ «عضوي» وطبيعي. دخلت تركيا أموالٌ كثيرة بفضل الاصلاحات (وهي توازت مع صعود العولمة المالية وانكباب المستثمرين على «الأسواق الناشئة»)، وأصبح المال رخيصاً والقروض سهلة وانتعش النموّ. ولكن، من جهةٍ أخرى، انت قد جرّدت نفسك من أغلب الأدوات التي كانت تمكّنك من التحكّم في الاقتصاد. بعد أن انسحبت الدّولة من الانتاج وتركته للقطاع الخاص قبل عقود، قامت بتحرير العملة والحسابات الخارجيّة، فلم تعد قادرةً على التأثير الفعلي في الانتاج أو في الاستهلاك. في هذه الدول، يشرح الاقتصاديون، يصبح المصرف المركزي هو الأداة الوحيدة المتبقيّة للتأثير في السّوق: ترفع أسعار الفائدة أو تخفضها، تدافع عن العملة عبر انفاق الاحتياط أو تستسلم وتتركها تنزلق. أردوغان يقوم ببساطةٍ باستخدام الآلية الوحيدة التي لا تزال موجودةً بين يديه ويتمّ انتقاده لأنّه لا يتخلّى عن «خطّ الدفاع الأخير» هذا، ويترك العمليّة بشكلٍ كاملٍ للسوق الدولي (هذا هو المعنى الحقيقي ل»استقلالية المصرف المركزي» الذي تشدّد عليه المؤسسات المالية).
فوق ذلك، فإنّ هناك أمثلة معاكسة: الصّين والمانيا، مثلاً، مندمجة مثل تركيا في العولمة الاقتصادية، وهي ايضاً عرفت مراحل نموٍّ مديدة، ولكن من غير أن يتحوّل النموّ الى تضخّمٍ وعجزٍ تجاري. وهناك أدبياتٌ كاملة عن أنّ مثل هذه الدّول «تغشّ»، تلجم الاستهلاك لصالح الاستثمار، أو تمارس «سياسة صناعية» تعطي المنتجين المحليين أفضليّاتٍ غير عادلة. سوف نعود الى بعض هذه الأسئلة ولكن الأساس هنا هو أن تنتبه الى أنّ الطريق الذي تسلكه يقوم على خياراتٍ وأن لا تستسلم الى حتميّة مفترضة، خاصّةً وانّه سوف يتمّ اتهامك بالغشّ في جميع الأحوال.