«الموضوع برمّته يتعلّق بالتكنولوجيا، هذه التكنولوجيا من الإجباري أن تتحكّم فيها شركات أميركيّة» وزير الخزانة الأميركي السابق ستيفن منوتشين
حول قرار الكونغرس ضدّ «تيكتوك»


في لغة الشركات والأعمال، هناك مصطلح يتمّ استخدامه بكثرة عند الحديث عن الشركات الكبرى التي تهيمن في أسواقها هو «الخندق» (moat)، والمقصود هنا هو الخندق الذي كنت تحفره حول حصنك أو قلعتك في القرون الوسطى، وتملأه بالماء، حتى لا يتمكّن أعداؤك من الوصول اليك. «الخندق» هو تشبيهٌ لـ«السلاح السرّي» أو عامل الامتياز الذي يحصّن تنافسيّة الشركة وهيمنتها، فيمنع أن يقوم غداً أيٌّ كان ليقلّدها أو يستبدلها.
«أمازون»، مثلاً، تحتمي خلف شبكة اللوجستيات الضخمة التي بنتها على مرّ السنين: مراكز توزيع وفرز هائلة تغطّي كامل سوقها، أساطيل توصيلٍ في أكثر من قارّة، وبرامج وتكنولوجيا تدير هذه الأمور بنتها «أمازون» بنفسها وتمتلكها حصراً. لهذا تقدر الشركة اليوم على توصيل الطلبات في مدنٍ كبرى، مثل لندن ونيويورك، خلال ساعاتٍ من بيعها للزبون على الإنترنت وبكلفةٍ قليلة من الصعب أن يجاريها منافس. بمعنى آخر، إن أردت أن تزاحم «أمازون» في ميدانها، فأنت تحتاج أوّلاً إلى استثمار مئات مليارات الدولارات مسبقاً لكي تتمكّن من مبارزتها من موقع المساواة.
هذا «الخندق» يأخذ أشكالاً مختلفة، فقد يكون تكنولوجيّاً مصدره الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، كحال «انتل» التي احتكرت سوق المعالجات تقريباً لعقود، أو شركات مثل «كوالكوم» و«اي ار ام» تخصّصت في تكنولوجيا محدّدة وأتقنتها حتّى أصبح من المستحيل اللحاق بها، وهي تحصّل مليارات الدولارات بسهولة بفضل ذلك. وقد يكون «الخندق» في الفعاليّة وخفض الكلفة، كامتياز صناعة السّفن في الصّين، الخ. الفرنسي برنارد أرنو هو من أكثر الأفراد ثراءً في العالم اليوم، وقد اختصّ بمراكمة الماركات الفخمة في الأزياء وغيرها (غالبية الماركات الأوروبية التي قد تكون سمعت بها - ديور، لويس فيتون، بلغاري، فندي، تيفاني - يمتلكها ارنو). وعائلة أرنو تعمل أساساً في مجال الهندسة، وهو كان مهندساً يدير شركة العائلة، ولكنّه يشرح سبب تحوّله إلى تجميع أيقونات التصميم والموضة من منطلق تجاري بحت: حين تشتري ماركة مثل «بيرلوتي» أو لوي فيتون، فأنت تشتري اسماً يعود إلى القرن التاسع عشر، من الصعب جدّاً أن تستنسخه اليوم. وهناك جانبٌ آخر لا ينتبه إليه الكثيرون: حين تشتري «ديور» أو «فندي»، فأنت تشتري معها شبكة من المتاجر راكمتها هذه الشركات على مدى عقودٍ طويلة، وهي موجودة في كلّ شوارع التسوق الرئيسية في العالم، من باريس ولوس أنجلس إلى طوكيو وشانغهاي، وأكثرها قد تمّ امتلاكه منذ زمنٍ بعيدٍ في مواقع مميّزة وبمساحاتٍ كبيرة. الحساب الذي أقامه أرنو هو أنّه حتّى لو خرج اليوم، فرضاً، كريستيان ديور جديد، فهو سيحتاج إلى مليارات الدولارات فقط لكي ينشىء منافذ بيعٍ وتسويق مماثلة، وهذا حاجزٌ من الصّعب تسلّقه.
لهذا السّبب، وبالمعنى المعاكس، يعرف الجميع في لبنان (وهو سوقٌ مزدحم شديد التنافسيّة «في الأسفل»، والجميع فيه يطمح لأن يصبح ثريّاً) أنّك حتى لو وقعت على فكرةً جديدة لم يسبقك إليها أحد، وقمت بتنفيذها بشكلٍ صحيح ونجحت تجارياً، فأنت هنا أمامك، على الأكثر، بضعة أشهرٍ لكي تحصّل أرباحاً حقيقيّة؛ إذ إنّه قبل أن تنقضي السّنة لن يظلّ آدميّ وابن ابوى في البلد لن يقلّد عملك أو منتجك، ويستنسخ شبيهاً له في كلّ مدينةٍ وشارع. هذا ما يعنيه غياب «الخندق»: إنّك تلعب في «طابقٍ» مختلف في السوق الرأسمالي - بتعبير فرنان بروديل - له قوانين وقواعد وهوامش ربح تختلف نوعيّاً وبالكامل عن تلك التي في «الطابق الأعلى».
أعتقد أنّ علينا أن نفكّر في هذا المنطق لكي نفهم لماذا كانت شركات السيارات الكبرى تعادي، بشكلٍ غريزي، فكرة السيارات الكهربائية وتحاول تأجيل وصولها إلى الحدّ الأقصى، وحتّى نفهم أيضاً سبب المشكلة القادمة بين الصين والغرب في هذا المجال، وهو أيضاً تشبيهٌ مفيد لحالة الإمبريالية ونمط إنتاجها في العموم. كما تعلمون، فإنّ الفارق الأساسي بين السيارة الكهربائية وتلك التقليدية هو في غياب محرّك الاحتراق الداخلي واستبداله بالبطاريات ومحرّكٍ كهربائيّ بسيط. هذا يجعل السيّارة الكهربائية، وإن كانت «تكنولوجية» أكثر، «بسيطةً» ميكانيكياً مقارنة بسيارة الغازولين. لا تحتاج إلى محرّك، ولا جهازاً لنقل الحركة، ولا أجزاء ميكانيكية تحتكّ ببعضها البعض، ولا حاجة إلى الزيت والرادياتور، الخ. أين المشكلة هنا؟ هي، باختصار، أنّ محرّك الاحتراق الداخلي هو الـ«خندق» الأساسي حول شركات السيارات التقليدية، الحاجز الذي يصعب تجاوزه للوصول إلى سوقها. لهذا السبب تجد سوق السيارات بالغ التركيز في العالم: حفنةٌ من الشركات، من أميركا وألمانيا واليابان، تتقاسم غالبية سوق السيارات، أو «كعكة» حجمها ثلاثة تريليونات دولار في السنة، وهي لم تعرف ظهور ضيفٍ جديدٍ على «الطاولة» منذ صعود الكوريين.
لم تعتمد الصّين على نمطٍ وحيدٍ للنموّ، بل سلكت ثلاثة نماذج مختلفة، على الأقلّ، والواحد منها يدوم بين عقدٍ وعقد ونصف قبل أن يُستنفد ويستبدل بـ«قاطرةٍ» جديدة تقود النموّ والاستثمار


المسألة هي أنّ محرّك «تويوتا» أو «بينز» هو عبارة عن ماكينة مذهلة، شديدة الفعالية وقد تمّ تحسينها، باستمرارٍ وبكلفةٍ كبيرة، على مدى عقودٍ من الاستثمار والأبحاث. يكفي أن تراقب ارتفاع فعالية المحركات منذ التسعينيات، أو تتأمّل معنى أن يعمل محرّكٌ لعشرين أو ثلاثين سنةٍ من غير عطل، لتفهم لماذا كان من الصّعب أن تستنسخ مثله. ليس من المستحيل تقنياً أن تقوم بصناعة محرّك غازولين يقوم بتحريك سيّارة، ولكنّه لن يكون بفعاليّة واعتماديّة محرّك «فورد»، ولهذا السبب لن يشتري سيارتك أحد مهما كان سعرها (فالزبون سوف يدفع فوق ثمنها على مدى حياتها فرق استهلاك الوقود، ويكفي أن تسمع أن محرّك سيّارةٍ ما يميل للأعطال حتّى تحيد عنها). كان الإيرانيون، مثلاً، يصنعون سياراتٍ ولكنّهم يضطرّون، لهذا السبب، إلى استيراد قطعٍ أهمّها المحرّك من «بيجو»، وهنا جزءٌ كبيرٌ جدّاً من القيمة المضافة والرّبح يظلّ في جيب الشركة الأمّ. لهذه الأسباب، لم يحبّ الصانعون الكبار فكرة السيارة الكهربائية منذ أن سمعوا بها، فهي تسقط الحاجز بينهم وبين المنافسين المحتملين، وتصبح أيّ شركة جديدة قادرةً - نظرياً - على جمع تمويلٍ وتصميم سيّارةٍ ومنافستهم مباشرة في مجالٍ جديدٍ لا يمتلكون فيه أسبقية - وهكذا ظهرت «تيسلا».
ولكنّ المشكلة ليست في «تيسلا»، فالدول الغربية لديها سياسة عليا بالتقليل من إحراق الكاربون، وظهور «تيسلا» هو من نمط «الخلخلة» (disruption) الحميد، الذي يظلّ تحت السيطرة، وتحتاجه الرأسمالية لكي تتجدّد ولكي تتبنّى الثورات التقنيّة حين تظهر، وتستثمرها في زيادة الإنتاجية والأرباح. بل إنّ «تيسلا» ومثيلاتها تتحوّل هنا إلى ما يشبه الـ«محفّز» الذي يجبر الباقين على المنافسة والتأقلم ودخول العصر الجديد. المشكلة وقعت حين تبيّن أنّ المستفيد الأوّل من هذه «الخلخلة» في سوق السيارات لم يكن «تيسلا»، بل الشركات الصينيّة التي انقضّت على هذا النموذج الصناعي الجديد وأتقنته. لم لا؟ فالصين أصبحت الرائدة عالمياً في تصنيع البطاريات، أهمّ مكوّنٍ في السيّارة، ولديهم أكبر سوقٍ داخليّ، وقد أتقنوا العملية الصناعية الحديثة. هذه السنة، تجاوزت الصين اليابان لتصبح أكبر مصدّر سياراتٍ في العالم (عام 2015 كانت الصين في المرتبة الـ16، بعد هنغاريا وتايلاند). والمثير هنا هو أنّ قفز الصين إلى المركز الأوّل، الذي اعتبره الإعلام «حدثاً تاريخياً»، قد لا يكون نتيجة جهدٍ نشطٍ ومنسّقٍ من الصينيين لتصدير السيارات واقتحام الأسواق. بل هناك تحليلٌ يقول إن الارتفاع في التصدير يرجع أساساً إلى انخفاض الطلب داخل الصين نفسها، ما جعل جزءاً من فائض الإنتاج يصرّف في الخارج؛ وسوق السيارات في الصين ضخمٌ لدرجة، وصناعتها هائلة لدرجة، أنه يكفي أن تتحوّل نسبةٌ منه إلى صادرات حتّى تسبق ألمانيا واليابان (ونصف مبيعات السيارات الجديدة في الصين، تقريباً، أصبح لنماذج كهربائية أو لا تعتمد على الغازولين).

آلة النموّ في الصّين: تاريخٌ موجز
ولكنّ موضوعنا الأساسي هو ليس السيارات، بل الصين، وسبب «الحرب الباردة» التي قامت بينها وبين المعسكر الغربي، والحظر التكنولوجي، ومعنى «الخلخلة» حين تصبح خطراً على المنظومة. ومن الواجب هنا أن نفهم التطوّر التاريخي لموقع الصين في النظام الدّولي وكيف وصلنا إلى هنا، ولماذا الحال اليوم يختلف عنه قبل عشر سنوات. وهذا لا بدّ أن يبدأ عبر تصحيح مفهومٍ شائعٍ ومغلوطٍ عن التجربة الصينيّة، مفاده أنّ الصّين الحالية قد قامت على نموذجٍ واحد هو نموذج «اقتصاد التصدير»، وعماده يدٌ عاملة رخيصة ووفيرة. أستعين هنا بزميلٍ سابقٍ، ويليام (بيل) هيرست، وهو باحثٌ في الاقتصاد السياسي ويتابع الاقتصاد الصيني من كثب منذ أكثر من ربع قرن. يصحّح هيرست أنّ الصّين لم تعتمد منذ الانفتاح على نمطٍ وحيدٍ للنموّ، بل هي سلكت بالتتابع ثلاثة نماذج نموٍّ مختلفة، على الأقلّ، خلال تلك المدة. وهذه النماذج على اختلافها كانت تحقّق أرقام نموٍّ مرتفعة، والواحد منها يدوم بين عقدٍ وعقد ونصف قبل أن يُستنفد ويستبدل بـ«قاطرةٍ» جديدة تقود النموّ والاستثمار. مرحلة «التصنيع والتصدير» ما هي إلّا واحدة من هذه، هي المرحلة الوسطى وقد دامت تقريباً بين سنة 1994 و2009-2010، ولكنّها كانت أيضاً المرحلة التي دخلت فيها السلع الصينية بيوتنا جميعاً، بالترافق مع صعود العولمة، وتعرّفنا خلالها إلى الصين وبنينا عنها انطباعاتنا. والخبراء في الشأن الصيني يقولون إنّ من عاش في الصّين، ولكنّه تركها قبل ثلاث أو خمس سنوات، لا يمكن أن تعتمد على ما يرويه، فوتيرة التغيير هناك سريعةٌ لدرجة أنّ كلّ شيءٍ يتحوّل، على السطح وفي العمق، كلّ بضع سنوات.
قبل عام 1994، أصلاً، لم يكن هناك بعد إطارٌ تنظيميّ يسمح للقطاع الخاص بالشراكات مع الأجانب والتصدير لصالحهم. الاستثمارات الأجنبية كانت لا تزال محصورةً في مناطق محدّدة، مغلقة عن باقي الاقتصاد الصيني، تمّ اختيارها على الساحل لتكون حاضنة تجريبٍ لما سيأتي فيما بعد. ولكن بين 1978 و1994 كان هناك أيضاً نموٌّ وفير ومتسارع لا يقلّ عن المرحلة اللاحقة، فمن أين أتى؟ بحسب بيل هيرست، هذه كانت مرحلة «النموّ خارج الخطّة». فلنشرح: قبل عهد دنغ والانفتاح الاقتصادي وتحرير الإنتاج في الريف، كان الاقتصاد الصيني لا يزال مداراً على الطريقة السوفياتية الكلاسيكيّة: عبر «الخطّة» (او، بنسختها الروسيّة، الـ«غوزبلان»). الفكرة هي أنّ كلّ وحدات الإنتاج في الاقتصاد ليست فقط ملكيّة عامّة، بل هي تدار جميعها بشكلٍ مركزيّ وتفصيلي عبر «الخطّة» من فوق. «الخطّة» تقرّر سنوياً مقدار الاستثمار في كلّ وحدةٍ في البلاد، وحصتها من الإنتاج، وكمية المواد الأولية التي ستستلمها، وسعر كلّ سلعةٍ ومادّة وخدمة في الاقتصاد. في موسكو، كانت الـ«غوزبلان» تدار من مبنىً هائل في وسط العاصمة، من أكبر الإدارات في البلد، ويعمل فيها عشرات الآلاف من الموظّفين والاقتصاديين وعلماء الرياضيات - الاستخدام العمليّ الأوّل للحواسيب في الاتحاد السوفياتي، إلى جانب الأمور العسكرية، كان في خدمة هذه الآلة البيروقراطية الهائلة والحسابات المعقّدة التي تتطلبها.

المشكلة الحقيقية ليست في تايوان أو بحر الصين أو حقوق الايغور، بل هي في وجود بنية ما لتوزيع الدخل والقيمة في العالم، وحولها خنادق، وهي سوف تدافع عن نفسها بشراسة


الصّين كانت على المنوال ذاته حتّى سمح النّظام، بعد عام 1978، بالنشاط الاقتصادي «خارج الخطّة». ظلّ القطاع العام موجوداً وتحت الإدارة المركزيّة، ولكن سمح لقطاعٍ خاصٍّ ("خارج الخطّة") بالنشوء إلى جانبه بشكلٍ موازٍ. أصبح في وسعك، مثلاً، أن تشتري شاحنات وتنشىء شركة نقلٍ لحسابك الخاص، أو تمارس أي نشاطٍ اقتصاديّ تقريباً. هذا ولّد قدراً هائلاً من الاستثمار والنشاط في القطاع الداخلي الجديد، وأرقام نموٍّ مرتفعة استمرّت حتّى التسعينيات، حين سعت الصين إلى الاندماج الكامل في سلسلة الإنتاج الدوليّة. لم يخرج اقتصاد التصدير إلى النّور بشكلٍ «عضويّ» وتلقائي، بل كان عمليّة قصديّة ومخطّطة «من فوق». هذا استلزم، أوّلاً، إعادة هيكلةٍ جذرية لنظام العمل والملكية والاستثمار. وقتها، مثلاً، تمّ «تنظيف» قوانين العمل من آثار المرحلة الماويّة وألغيت - كما شرحنا سابقاً - حقوقٌ منها حقّ الإضراب الذي كان مكفولاً في الدّستور، وقد تكلّلت هذه التحوّلات بانتساب الصّين عام 2001 إلى منظّمة التجارة الدولية.
تعبير «مصنع العالم» الذي اكتسبته الصّين في تلك السنوات ليس دقيقاً، بل قد يكون المصطلح الأصحّ هو «خطّ تجميع العالم»: أكثر الأمور العالية القيمة كانت الصّين تجمعها ولا تصنعها، تأتي مكوّناتها الثمينة من الخارج، وأكثر الأمور التي تصنعها الصين رخيصة وغير معقّدة (والشركة صاحبة الماركة تحتفظ بأكثر القيمة، بل إن التاجر الذي يبيع السلعة على «أمازون»، في الخطوة الأخيرة، للمستهلك يكسب أكثر بكثيرٍ من "الصانع"). ولكنّ النموّ المتسارع في قطاع التصدير قد وصل أيضاً إلى حدودٍ، يضيف هيرست، مع الأزمة المالية الدولية عام 2008-2009، حين انخفض الطلب على الصادرات الصينية وتقلّص حجم التبادل الدولي للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة.
هنا، ومنذ عام 2010 تقريباً، دخلت الصّين بوضوحٍ في حقبتها الثالثة، أي الاعتماد المتزايد على سوق العقار والبناء والإنشاءات والبنى التحتية من أجل تحفيز الاستثمار والنموّ وهذا حصل، كما في السابق، بتخطيطٍ وتسهيلٍ وتحفيزٍ من الدولة والحكومات المحليّة والنظام المصرفي. وهو أيضاً استلزم إصدار عددٍ هائلٍ من التنظيمات والقوانين الجديدة (عام 2010، مثلاً، كانت فكرة القروض العقارية في حدّ ذاتها غريبةً في الصّين، وكان امتلاك أكثر من بيتٍ للاستثمار شبه محظورٍ في القانون). كانت الخطّة وقتها أنّك تلبّي حاجةً وتشغّل النّاس وتضمن النموّ في آن: لا يزال البلد يفتقر إلى البنى التحتيّة الحديثة، وهي ضروريّة للعبور إلى مرحلةٍ أرقى من النموّ، وهو يشهد عملية تمدينٍ واسعة تحتاج إلى بناء عشرات ملايين الشقق. خلال سنوات فقط، أصبح قطاع العقارات والبناء ومتعلّقاته يشكّل ثلث الدخل القومي الصيني، بعد أن كان قطاعاً ثانوياً، وأضحى شراء الشقق هو أداة التوفير والاستثمار الأولى للعائلات الصينية.
في هذه المرحلة أيضاً، بين 2010 و2020، اشتهرت الصّين بمشاريع البنى التحتية التي أدهشت العالم: أكبر شبكة قطارات سريعة، آلاف الكيلومترات من أنفاق المترو، جسورٌ وطرق سيّارة حتى في صحراء غوبي والجبال النائية - وهذه كلها ظهرت سوية خلال أقلّ من عقد. في تلك الأيّام، راجت إحصائيّة معبّرة تفيد بأنّ استهلاك الصين من الإسمنت، في ثلاث سنوات فقط، قد فاق استهلاك أميركا من الإسمنت طوال القرن العشرين (أي مرحلة بناء نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلس، وسد هوفر والضواحي، وشبكة الطرق السريعة، وكل المشاريع القومية الكبرى التي صنعت أميركا الحديثة).

الصّدام مع المنظومة
يقول الخبراء إنّ الأزمة العقاريّة التي ضربت الصّين في السنوات الماضية لم تكن حدثاً فجائياً بالكامل، «صدمة» سوقيّة بحت، بل هي كانت في جانبٍ منها «تدميراً مخطّطاً» أسهمت فيه الحكومة، كما عندما تبرمج تفخيخ مبنى وهدمه. عام 2019 مثلاً أقرّت الدولة الصينية حزمة تنظيماتٍ جديدة للقطاع العقاري، ثلاثة «خطوطٍ حمر» جديدة على الجميع الالتزام بها وإلّا تقفل عليهم أبواب المصارف، وهي تحدّد نسب ملاءة قاسية وتحدّ من قدرة الشركات على المزيد من الاستدانة. وكان أصحاب القرار يعرفون جيّداً أنّ هذه الشروط الجديدة سوف تؤدي إلى إفلاس عدد من الشركات الرئيسية ولجم القطاع بأكمله. أصبح لزاماً على الاقتصاد الصّيني أن يسير نحو نمطٍ جديد (ومن النافل القول إنّ كل نموذجٍ جديد لا يلغي أسباب النموّ السابقة، فالتصدير والبناء سيستمرّان كأعمدةٍ للاقتصاد الصيني، ولكن بأرقام نموٍّ أكثر تواضعاً، فيما تحصل «إعادة برمجة» تضع قطاعاتٍ أخرى في الصدارة).
يمكنك أن تستشفّ ملامح المرحلة القادمة في الصين لأن جذورها تُزرع في الفترة التي سبقتها (أو أن تقرأ ببساطة أدبياتهم وخططهم المنشورة)، و«إعادة البرمجة» في كلّ عهدٍ لا تحصل بشكلٍ فوريّ، بل تستغرق سنواتٍ من التحضير والتجريب قبل الانطلاق. وعنوان المرحلة الرابعة، التي نحن في قلبها اليوم، هو باختصارٍ الصّعود على سلّم القيمة في سلسلة الإنتاج. بمعنى آخر، أن تنتقل الصناعات الصينية إلى مجالاتٍ أكثر تعقيداً، تشغّل أساساً مهندسين ومصمّمين ومبرمجين بدلاً من أن تكون غالبية الوظائف في المصنع وعلى خطّ التجميع. وبالفعل، منذ أيامٍ قليلة، أعلنت «بلومبرغ» أنّ قطاع التقنية العالية في الصّين قد سبق سوق العقارات بإنتاج النموّ والطّلب في الاقتصاد. ومثلما كانت الصّين تنافسيةً في قطاع التصدير قبل عشرين سنة بفضل وفرة اليد العاملة الرخيصة، فهي اليوم أصبح لديها فرصةٌ حقيقية في هذه المجالات المعقّدة. يكفي أنها أصبحت تخرّج مهندسين وباحثين كلّ سنةٍ أكثر من أميركا وأوروبا واليابان مجتمعين.
من هنا، كان محور الخطط والمبادرات الصينية في العقد الأخير هو أن تجد الصين موطىء قدم في كلّ التقنيات الرئيسية التي سيكون لها شأنٌ في المستقبل القريب: الطاقة المتجددة، الاتصالات، الذكاء الاصطناعي، الشرائح الدقيقة - والسيارات الكهربائية. هذا ما سرّع ظهور السيارات الصينية على الساحة بهذا الشكل الصاعق (من سيّارات فخمة تنافس «تيسلا» بمعاييرها، مثل "نيو" و"BYD"، وصولاً إلى سيارات كهربائية صغيرة ثمنها 12 أو 14 الف دولار أصبحت رائجة في وسط آسيا). وهذا يفسّر أيضاً سبب «الحرب التكنولوجية» القائمة ضدّ الصّين، والإجراءات الأميركية الأخيرة هي، نكرّر، إعلان لحربٍ لا يوازيها إلا الحصار التكنولوجي الذي أقيم ضدّ الاتحاد السوفياتي قبل نصف قرن. والهدف هنا هو أن توضع الصّين خلف «سورٍ» تكنولوجي يعزلها عن دول «المركز» ويضعها في زمنٍ تقنيّ مختلف عنهم، أي أن تظلّ على الدّوام خلفهم بعشر سنوات.
المشكلة الحقيقية ليست في تايوان أو بحر الصين أو حقوق الايغور، بل هنا تحديداً: توجد بنيةٌ ما لتوزيع الدخل والقيمة في العالم، وحولها خنادق، وهي سوف تدافع عن نفسها. ونرى أمامنا بوضوحٍ أنّ «الخندق» (moat) الذي يتكلّمون عنه في عالم الأعمال هو سياسيّ وتاريخي قبل أن يكون في التقنية والبزنس. هذه ليست مسألة تجارة وتنافس بين الشركات، بل هي أهمّ لعبةٍ في الدّنيا، وهذه «البنية» (سواء سمّيتها أميركا، الإمبريالية، «الغرب»، لا يهمّ) سوف تفعل أيّ شيءٍ لمنع اختلالها وانكشاف مواردها. حتّى في فلسطين وغزّة، الوجه الإثني للصراع ما هو إلا جانبٌ بسيطٌ ممّا يجري، وعلاقة المؤسسة الغربية بإسرائيل ليست عاطفيّة أو هوياتيّة أو «أبويّة» كما يعتقد البعض. هم يقاتلون مع إسرائيل من أجل أنفسهم أوّلاً، ولذلك يقاتلون بشراسة. وبتعبير الباحث ماكس آيل، فإن تفسير السلوك الغربي عبر اللوبيات مثلاً هو خرافة وتبسيط هدفها أن تخفي عنك حقيقةً أصعب، هي أنّ قتل الأطفال الفلسطينيين «هو بالضبط ما يتوجّب على الحكومة الأميركية واحتكاراتها فعله من أجل إبقاء العالم كما هو».