كان لدى الماركسي الأميركي الشاب بنيامين ستوديبيكر، نظرة متفردة تجاه أحداث تمرد يفغيني بريغوجين، وجيش «فاغنر» الخاص، على فلاديمير بوتين، العام السابق. ستوديبيكر، في المناسبة، متشائم ولا يرى في حركة الاحتجاجات من أجل غزة في الغرب أي فائدة حقيقية على المدى البعيد من أجل القضية الفلسطينية أو من أجل إعادة بناء اليسار الغربي على حد سواء. يقول ستوديبيكر عن زعيم جيش «فاغنر» إنه انقلب بين ليلة وضحاها إلى «بطل ثوري» لدى الغرب، هنا يرى ستوديبيكر في متابع الأخبار الغربي كمشارك في ثورة «من دون مخاطر»، لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن تمرّد بريغوجين، أو كل ما يحدث في روسيا وأوكرانيا هو من غير مخاطر ومآلات كارثية على الأرض، ولكن لدى المشاهد البعيد ثورته الخاصة، أو على الأقل قناعة قائمة على وعي زائف بأن الثورة الاجتماعية القادمة التي ستقلب كل شيء، هي في مكان بعيد ما في العالم، وعلينا أن نصفق لها حالما حلت علينا. في عقد ما بعد 2011، وأفول انتفاضاته، حدثت ثورتان اجتماعيتان في العالم العربي ولدى عرب المهجر، هما في الحقيقة أطوار من الهستيريا الجماعية. الأولى، كانت ثورة طائفية محافظة قلبها سوريا. والثانية، كانت ثورة ثقافية ليبرالية قلبها لبنان. بالنسبة إلى سوريا، هنالك كانت الأحداث على الأرض التي حملت معها مخاطر وخيمة وحقيقية، أي تدمير بلد وتهجير سكانه، وكانت هنالك النظرة الطائفية إلى الأحداث من بعيد لدى المشاهد العربي من كرسيه المريح. تسنّى لي رؤية تلك الهستيريا في ذاك الوقت عندما كنت في المهجر، من مغاربة يقولون لي إن روسيا هي «الشيطان الأكبر»، إلى توانسة يكفّرون لي «حماس» وإردوغان لأنهم ليسوا على قدر «إيمان وتقى» «داعش»، إلى عراقيين يتمنّون نكبة فلسطينية ثانية من أجل نقلنا نحن، أهل السنة والجماعة الفلسطينيين، إلى العراق من أجل «قلب الموازين الديموغرافية»، إلى لبنانيين يملكون مطعماً معلّقاً على حائطه صورة الحريري، يجحدونك لدى دخولك ويرغبون في طردك لأن لديهم نظرية - في ذاك الوقت - أن كل فلسطيني يعمل لدى «الباسيج»... وغيرها من الآراء والتحليلات السياسية الطائفية العرمرمية.
أمّا الثورة في لبنان في عام 2019، والتي جاءت لتؤكّد أن انتفاضات بداية العقد قد أجهضت بالفعل، فقد اجترحت مفهوماً جديداً، «لا-جغرافياً»، لمفهوم «الثورة من دون مخاطر». ما نعنيه هنا أنه في إمكانك أن تشارك في الثورة ليس من بعيد ومن خارج لبنان فقط، بل في إمكانك أن تكون على الأرض في قلب الحدث وألّا تخاطر بأي شيء تقريباً (بل تستفيد في حيزك الاجتماعي والوظيفي). أحاجج هنا بأن انفجار مرفأ بيروت كان مفيداً للثوار، ذلك لأنه قد أضفى طابعاً حربياً دستوبياً على الثورة، إذ ظن «الثوريون» أنهم ليسوا فقط مركز العالم بل يعيشون نهايته، وأقنعوا أنفسهم أن بيروت هي ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية (على الهامش، في معرض في متحف خليل السكاكيني في رام الله، كان هنالك عمل «فني» يقارن أحداث بيروت بلعبة «البابجي»، وكأن ذلك الفنان الداعم للثورة، قد كشف من دون قصد بطريقة فرويدية عقلية الثوار، أنهم يعيشون في عوالم وهمية رقمية تنقسم بين مسلسلات النتفليكس «الحداثية» والألعاب الإدمانية الرخيصة).
غياب المخاطرة هنا، سهّل على النخب الفلسطينية والمشرقية المدينية أن تتبنّى الثورة اللبنانية، بعض الفلسطينيين كانوا يجزعون مما يحدث في سوريا، بسبب تجربة الحرب الأهلية السابقة في لبنان، والبعض الآخر، ممن التحق لاحقاً بدعم الانتفاضة اللبنانية، كان يشعر بالجزع من أحداث سوريا بسبب رهابه من الإسلام (بكلمات أخرى، أنت لست مخطئاً لأنك تتلقى التمويل من الخارج، بل أنت مخطئ لأنك تستخدم التمويل لمشروع جهادي). بناء على هذا الأساس، من لم يشتم المقاومة اللبنانية لدوافع طائفية في زمن الهستيريا الطائفية، أكيد شتمها لدوافع ليبرالية ثقافية في زمن هستيريا الثورة اللبنانية. وهنا لا يكفي أن تكون في حيّز وسيط، تقدّم فيه نقداً تاريخياً مادياً لسياسات الدولة الرأسمالية السورية، أو أن تعيد نشر مقال لأسعد أبو خليل في نقد حزب الله، بل عليك أن تشتم المقاومة ببذاءة وسوقية وأنت ترقص حتى تثبت ولاءك.
هذا التبني السريع للثورة اللبنانية، يبيّن لنا فرقاً آخر بين سوريا ولبنان، جمهور الداعمين العرب للمعارضة السورية حوى كلاً من النخب الثورية، من جهة، والطبقة العاملة والمهمشين في المهجر والطبقة المدقعة من جهة أخرى، أي أولئك الذين استبدلوا الحنق الطبقي في العالم العربي وأوروبا بالحنق الطائفي والسلفي. أمّا جمهور الداعمين العرب والمشرقيين للمنتفضين اللبنانيين بعد 17 تشرين، في عمان ورام الله وحيفا، فقد كانوا حصراً من جهات نخبوية ثقافية تعيش عالمها الخاص. تلك البيئة النخبوية المشرقية كانت معدة سلفاً لاستقبال كل ذاك الجنون. اليأس من فشل انتفاضات بداية العقد، لحقه اليأس والرهاب من الموجة الطائفية، ولحقه بعد ذلك الثورة الحقوقية-التقاطعية الغربية ما بعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والتمويل الأوروبي - الستاليني الطابع - للطبقة الاحترافية الإدارية في بلادنا، كل ذلك جهز اليسار المشرقي لتضخيم ما حدث في لبنان في 17 تشرين على أنه ثورة اجتماعية كبرى ستغير كل شيء في بلادنا.
التضامن المؤقت لأعلام الثورة وأسمائها مع ما يحدث في غزة لم يشكّل خروجاً عن أزمة الوعي بل شكّل استمرارية لها


هكذا أظهر الإعلام والأكاديميا البديلان اليساريان المشرقيان (حتى تلك الأوساط المعادية للإمبريالية الغربية) أن النزاع عبر-البرجوازي، في لبنان، أي في بلد أصغر حجماً من محافظة فرنسية، أنه ثورة «المشرق» الجديدة. وهكذا نشرت مقالات في الشتم كـ«أداة ثورية» ومقالات في محاولة الربط بين ثورة لبنان وانتفاضات بغداد، وبالطبع كتابات غير منقطعة عن الجندر والأبوية والذكورية وعن دور الجندر في «تذويب» الأبوية الطائفية في لبنان والمشرق (وكأن جنبلاط وجعجع سيحلان حزبيهما ويتقاعدان من شدة تأثرهما بكتابات جوديث بتلر)، وكتابات عن رأفة «الثوار» وحبهم للفقراء وزياراتهم العشوائيات وحبهم للطعام الشعبي، وكتابات تصور عدم احترافية الصحافية هادلي غامبل، وتصرفاتها الفوقية، على أنه دعم إيثاري لثورة الشعب اللبناني ضد جبران باسيل.
تلك المظاهر الكونية والكوزموبوليتانية الجديدة وغير المألوفة في لبنان، والتي أبهرت المشاهد اليساري المشرقي وأعمته، لم تنهِ عالم السياسة اللبناني القديم والمألوف، بل خبّأته. في نهايات عام 2019، مررت على عدد من «ثوار» الجالية اللبنانية في المهجر، كان ذلك في احتجاج أمام مؤتمر لأمين معلوف. حينها لم تكن التشكيلة الثورية ذاتها التي قد تراها في بيروت أو التي قد تشبه داعميها في اليسار المديني المشرقي. هؤلاء المغتربون، والذين بدوا وكأنهم أبناء ضيعة لبنانية واحدة، لم يتبعوا للحيز الحقوقي والإداري-الاحترافي في بيروت، هؤلاء ممن يعملون في التجارة والمطاعم في الأساس، اعتبروا أنفسهم «أهل البلد الأصليين» الذين «اضطروا» للهجرة بعد أن خُطفت البلاد منهم. حينها فهمت أن التاريخ المادي للبنان كان سيحتم أن يتم تسخير الثورة، مهما بدت تقدّمية وحداثية، لضمان استمرار الشعبوية اللبنانية ذاتها «الكارهة للغريب» منذ ستينيات القرن الماضي (ذاك الصنف من «الثوار» هو على الأقل صادق، له تاريخه ورموزه ومظالمه المتخيلة والحقيقية، هو لن يدعوك أن تغير نفسك من أجل مستقبل وهمي أفضل، بل سيضع لك صورة بشير الجميل وهو يحذرك بسبّابته من الاقتراب خطوة واحدة).
وإذا لم تكن الثورة قد أنهت عالم السياسة القديم في لبنان، فهي بالتأكيد لم تنهِ عالم السياسة القديم في المشرق كما توقع منها مشجعوها. المشكلة الأساسية هنا تكمن في أن الثوار أرادوا نزع سلاح المقاومة وهم على الحدود مع كيان استعماري نووي يقوم على الهيمنة الإثنية-القومية، بل نظام فصل عنصري على وشك أن يرتكب إبادة جماعية خلال سنوات قادمة. هنا جاء السابع من تشرين لكي يظهر السابع عشر من تشرين على حقيقته؛ ثورة من دون مخاطر في قلب عالم واقعي خطير. من المدهش كيف غاير الصراخ والهرع الجماعي الثوري في لبنان بعد 17 تشرين، هدوءاً وخجلاً وتلعثماً (بل اكتشافاً بأن هنالك شيء على الخريطة اسمه فلسطين والفلسطينيون) بعد 7 تشرين.
التضامن المؤقت لأعلام الثورة وأسمائها مع ما يحدث في غزة، لم يشكّل خروجاً عن أزمة الوعي بل شكّل استمرارية لها. هنا أصبحت القضية الفلسطينية إنسانية فحسب، ومفصولة عن القضية العربية المشتركة، وهنا تبدأ القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر والهجمة على غزة وتنتهي مع وقف إطلاق النار. وهنا يصبح ما يقمع الفلسطينيين هو شخص نتنياهو وليس الدولة الصهيونية بحد ذاتها.
المنصة الإعلامية لميديا عازوري ومعين جابر، هي مثال واضح على محاولة «لململة» السردية الثورية بعدما ثبتت محدوديتها في العالم الواقعي (على الهامش، الاقتصاد السياسي هنا في أن كثيراً من مقابلات البودكاست، شرقاً وغرباً، للمؤثرين والكوميدان وأصحاب الكاريزما، تحوي حيزاً وافراً عن أحوال «البزنس» و«إحصائيات المشاهدة» وكيفية بناء «البراند»). هذه «اللملمة» في بودكاست «سردة»، اشتملت على مقابلات لا تصلح أن تكون درساً للتاريخ في الصف الخامس الابتدائي عن الجبهتين «الشعبية» و«الديموقراطية» كأحزاب علمانية فلسطينية، إلى مقابلات مع ناشطين مثليين يدعمون القضية الفلسطينية من أجل استظهار أن هنالك دعماً «كوول وتقدّمي» للقضية (ولأن الغَيرية الجنسية اخترعها الغرب وفرضها علينا)، إلى مقابلات مع «خبراء مستقلين» في العلاقات الدولية يعتبرون أن أهلنا في الجنوب هم حاملة طائرات إيرانية.
الحرب على غزة كشفت خللاً آخر في منهج الثورة اللبنانية. حتى التطبيق الفعلي لـ«كلن يعني كلن»، أي النقد الفعلي لدول الخليج من قبل إعلام وأكاديميا الثورة، لم يعنِ أن الثوار قد بنوا كومونات بيروتية وأكلوا مما زرعوا ولبسوا مما صنعوا ووصلوا أعلى مراحل الاستقلال السياسي وأنقاها. بل في الحقيقة كانت تلك سلعة أخرى في سوق «كلن يعني كلن» يسهل عبرها، مقابل التمويل، وضع الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي والناشطين الحلفاء الغربيين والأخوات النسويات الغربيات، خارج نطاق «كلن يعني كلن» (بكلمات أخرى، العودة، على نهج المحافظين الجدد، إلى كل العرب والمسلمين يعني كلن)، هذا بالطبع استمر حتى جاء السابع من تشرين وخرب ذلك كله. الأربع سنوات الأخيرات قلبت نظرية أصدقائي الملحدين بشأن أن «طائفة إسلامية لها روسيا وأخرى لها أميركا والملحدين ما لهم غير الله». في الحقيقة، الناشط له أميركا والحقوقي له أوروبا، والمقاوم والمرابط ما لهما غير الله.

* كاتب وباحث فلسطيني