حدث ذلك منذ عشرة أعوام بالتمام. ففي صبيحة يوم العاشر من أكتوبر 2013، كان جندي إسرائيلي من وحدة البدو «قصّاصي الأثر» (1) يراقب المكان في غلاف غزة، بالقرب من مستوطنة «عين هشلوشا» (وتعني العين الثالثة). ولفتَ انتباهَ الجندي البدوي وجود انزلاق أرضي في أحد المنحدرات بالقرب من هذه المستوطنة. وكانت الأمطار قد هطلت بغزارة في ذلك الوقت من الخريف. ولمّا كان الارتياب عند البدوي جزءاً من طباعه، فقد عَنّ له أن يتفقّد المكان ويتفحّصه. وما لبث المجنّد أن وجد في طيّات الأرض الزلقة شيئاً غير مألوف. كانت هناك كوّة صغيرة مخبّأة تحت التراب. وكان من الواضح أن الكوّة التي عرّاها انزلاق التراب تكشف عن نفق.
نفق لا آخر له
سريعاً ما تسلّمت وحدة هندسة العمليات الخاصّة في الجيش الإسرائيلي، المعروفة بـ«يهلوم» (وتعني «الماسة» بالعربية)، زمام أمر هذا النفق المكتشف حديثاً في غلاف غزة. كانت «يهلوم» هي الوحدة المختصّة في مكافحة الأنفاق وشبكات الممرات التي يستخدمها المقاومون الفلسطينيون، ويستحدثون في كلّ يومٍ تحت الأرض أجزاء جديدة منها. ولم يكن الإسرائيليون، كعادتهم، يُولون لهذه الأنفاق شأناً، في البداية. بل إنهم اتخذوها هزؤاً. فهي عندهم تارة «مترو أنفاق غزة»، وهي تارة أخرى «الشبكة العنكبوتية لغزة». ثم شيئاً فشيئاً فهم الإسرائيليون أخيراً أنّ هذه الأنفاق الممتدة المتشابكة تمثّل أهم تهديد أمني وإستراتيجي يواجهه جنودهم ومستوطنوهم. وكانت عملية أسر الجندي جلعاط شاليط مثالاً ساطعاً، لما يمكن لأنفاق غزة أن تصيب به إسرائيل. بيد أنّ هذا النفق الجديد قرب «عين هشلوشا» الذي تم اكتشاف أحد مخارجه بالصدفة، لم يكن نفقاً عادياً. بل كان شيئاً عجيباً لا يقدر على إبداعه إلا قوم جبّارون.

(محمد نهاد علم الدين)

امتدّ ذلك النفق من قرية عبسان شرق خان يونس، حتى وصل إلى داخل مستوطنة «العين الثالثة». أي إنه اخترق الأراضي المحتلة 48 مسافةً ناهزت نصف كيلومتر. وليس هذا كل شيء، فالنفق امتدّ تحت قطاع غزة مسافة تجاوزت كيلومترين كاملين. وتجاوز عمقه عشرين متراً تحت الأرض (وهذا يعادل ارتفاع بناء من خمسة طوابق تقريباً!). ولم يقدر مهندسو وحدة «يهلوم» وحدَهم على فهم كنه هذا النفق المعقّد المتشابك، فكان لا بد من الاستعانة بفرق هندسية كاملة من الجيش الإسرائيلي، وبخبراء في الفحص الجغرافي والجيولوجي لكي يمسحوا المكان مسحاً شاملاً. ولعل أكثر ما حيّر قادة العدو وأغاظهم هو كيفية تمكّن حفّاري المقاومة الفلسطينية من شق هذه الكيلومترات من دون أن تتفطّن المجسّات الأمنية المنتشرة في كل مكان لعملهم، ومن دون أن تلحظ دوريات الطائرات بدون طيار التي تحلّق على مدار الساعة فوق غزة، آثارهم.

رجال الله
إنك لكي تنشئ نفقاً واحداً من هذه الأنفاق، عرضُهُ متر وعشرون سنتيمتراً، وارتفاعه متران وعشرون سنتيمتراً (2)، فأنت تحتاج إذاً إلى استخراج تراب ورمل وحجارة من تحت الأرض يصل حجمها الإجمالي إلى ستة آلاف وستمئة متر مكعب. وإنّ هذه الكمية -التي أخرجها المقاومون بالفعل من النفق- تعادل ملء ثلاثمئة وخمس وستين شاحنة من الحجم الكبير. ولمّا لم يكن للفلسطينيين رفاهية استعمال الشاحنات في حفر أنفاقهم، فقد كان عليهم أن يستعملوا فقط الدلاء في أشغالهم. وذلك يعني أنهم قد ملأوا ستمئة وستين ألف دلو لإنشاء النفق (مليون إلا ثلث دلو!).
ولأنّ مدخل النفق بعيد جداً، من جهة خان يونس، فإنّ ذلك كان يستلزم من المقاوم الفلسطيني أن يحمل على كتفيه، بواسطة آلة ميكانيكية، عشرة دلاء معبّأة، ويمضي بها في كل مرة، ثم يعود. وهذا معناه أنّ إجماليّ المسافات التي قُطعت لحمل الرمال وإخراجها من النفق تعادل 165 ألف كيلومتر (وذلك يعادل طول البحر الأحمر ثمانين مرة!).
لكي لا يتعرّق الحفّارون الفلسطينيون، وهم يحفرون الأنفاق -لأنّ العرق قد يتسبّب بانهيار جزئي في رمال النفق أثناء العمل- كان لزاماً عليهم أن يعتادوا النزول إلى باطن الأرض دون أن يشربوا ماء كثيراً


ولكي لا يتعرّق الحفّارون الفلسطينيون، وهم يحفرون الأنفاق -لأنّ العرق قد يتسبّب بانهيار جزئي في رمال النفق أثناء العمل- كان لزاماً عليهم أن يعتادوا النزول إلى باطن الأرض دون أن يشربوا ماء كثيراً. لقد كان على المقاوم الفلسطيني أن يحفر في الأرض في ظروف خانقة، ثم لم يكن له أن يتعرّق! وليس العرق وحده هو الممنوع على الفلسطيني، وإنما الحفّارات الكهربائية ممنوعة هي الأخرى لأنها قد تصدر ضجيجاً ينبّه العدو. ولذلك استبدل الفلسطينيون الأجهزة الكهربائية الحديثة في الحفر بأجهزة ميكانيكية بدائية تشبه سلاسل الدراجات الهوائية. ومن أجل تشغيل سلسلة هذه الآلة يستلقي الحفّار على ظهره، ويقوم بتحريك الدعاسات بعضلات رجليه لأنها الأقوى بين عضلات الجسم. وتقوم سلسلة جهاز الحفر بتحريك قطع حديدية تنقب في الأرض.
ولكي يضمن الفلسطينيون أن لا تحدث انهيارات داخل ذلك النفق خلال الحفر أو بعده، استخدموا خمسة عشر ألف بلاطة خرسانية من القطع الكبير. وكان على كل مقاومين اثنين أن يحملا، في الممرات الضيقة، بلاطة ضخمة تزن قرابة مئة كيلوغرام، وأن يسيرا بها إلى موضعها. وإنّ إجمالي المسافات التي مشاها المقاومون حاملين لهذه البلاطات الضخمة بلغت ثمانية عشر ألف كيلومتر (وهذا طول البحر الأحمر تسع مرات!).
ولمّا اكتشف الصهاينة أمر هذه البلاطات الخرسانية، قرّروا وقف إدخال مواد البناء تماماً إلى قطاع غزة. ولكن هذا الحظر الجديد لم يفتّ من عزم رجال الله، فقد نزعوا من أثاث بيوتهم خشباً، وجعلوه بلاطاً يحمي جدران الأنفاق من الانزلاق أو الانهيار.

■ ■ ■

واليوم، بعد عشرة أعوام من قصة نفق «العين الثالثة»، ها قد أضحت تلك الأنفاق الغَزيّة التي بناها المجاهدون بسواعدهم العزلاء سجوناً لأعدائهم. وأصبحت للمقاومين مأوى وسكناً وحصناً.

الهوامش
(1) من المؤسف أنّ معظم المنتمين إلى وحدة «قصّاصي الأثر» التابعة للكتيبة الصحراوية في الجيش الإسرائيلي، هم من العرب البدو. بل إنّ مَن أسّس هذه الوحدة في جيش العدو -قبل ثلاثة وخمسين عاماً- كانا ضابطين بدويّين. ورغم أنّ الاسم الرسمي العبري لوحدة قصّاصي الأثر في جيش العدو هو «وحدة مرعول» (وتعني «الملثّمين»)، إلا أنّ الإسرائيليين درجوا على تسمية هذه الكتيبة بـ«البدوية». وفي كل يوم يخرج أولئك الجنود البدو، وعددهم بالمئات، للقيام بمهماتهم، متسلّحين ببنادق أم 16. ويتجوّلون في جميع حدود إسرائيل باحثين عن كل أثر للمقاومين. ولقد كان لهؤلاء «القصّاصين للأثر» دور حينما أنيطت بهم مهمة استقصاء خطى المناضلين الستة الذين هربوا من نفق سجن جلبوع.

(2) إنّ ارتفاع سقف الأنفاق، وعرضها، هما مسألة محسوبة بعناية. فهذا الارتفاع يكفي المقاوم لكي يشق طريقه شاهراً سلاحه، من دون أن يحني رأسه.

* كاتب عربي من تونس