«إنّ غياب البدائل والخيارات يسبغ على الذّهن صفاءً رائعاً»هنري كيسنجر

كنت أقول دائماً إنّ الولايات المتحدة ارتكبت، على مرّ السنين، خطأً من النمط الملحمي حين قامت بما يشبه إعلان الحرب على إيران، وإشهار نيّتها تغيير النظام أيّام جورج بوش، ولكنّها لم تشنّ الحرب ولم تعلن المصالحة. المنطق يقول: إمّا أن تبادر إلى الحرب باكراً، وميزان القوى هو في صالحك إلى الحدّ الأقصى وأدوات خصمك لا تزال قليلة ومحدودة (عام 2006 مثلاً)، أو أن تعلنها واضحةً أنّك لا تنوي القتال والعداء مع هؤلاء النّاس (ولو حصل ذلك وقتها، لربما كان النظام السياسي الإيراني، والمنطقة بأسرها، في مكانٍ آخر اليوم)؛ ما لا يجوز لك فعله هو أن ترفع راية الحرب ضدّ خصمك، ثم تعطيه عشرين عاماً لكي يتحضّر لها.
أنا أدفع بأنّ هناك خياراً شبيهاً يتبيّن بين لبنان وإسرائيل، وهو ما يعني أنّ الحرب «الكبيرة»، على عكس البوادر الظاهرية، قد تكون أقرب إلى أيّ وقتٍ مضى. في التسعينيات من القرن الماضي، «سمحت» إسرائيل للمقاومة بأنّ تشنّ عملياتها، ضد قواتها وعملائها، ضمن المنطقة المحتلّة من دون أن تردّ إسرائيل بقصف المدنيين والقرى والمدن اللبنانية - وهو ما تمّ توثيقه وتحويله إلى «تفاهم» إثر حرب 1996 (لم تكن قد ظهرت بعد الفئات الغرائبية التي نعرفها اليوم، وكان السوريون لا يزالون في البلد، فلم تصدح الأصوات وقتها تتّهم المقاومة بالتنازل والتخاذل والاعتراف بإسرائيل).
بالنظر إلى الخلف، كان من المستحيل أن تقبل إسرائيل بمثل هذا الاتفاق لو أنّها كانت تعرف إلى أين ستسير الأمور. هم مشوا في اتفاق نيسان وفق افتراضين: هو تدبيرٌ «مؤقّت» لحين عقد اتفاقيات سلام، وتقييم يقلّل من تقدير «حزب الله» وطموحه وخطورته والمدى الذي سيصل إليه. مع قناعةٍ بأنّ النظام اللبناني الناشئ إمّا سيبتلعه أو سيقمعه. بالمناسبة، كلّ المقاومات العربيّة تفضّل ألف مرّةٍ لو أنّ شروط الحرب مع العدوّ تكون حصراً بين العسكريين، تضرب جنودهم ويضربون جنودك، ولكن إسرائيل من المستحيل أن تقبل بمعادلةٍ من هذا النّمط (ولو كنت مكانهم لكنت ستفعل الأمر ذاته، فقدرة التدمير والعقاب الجماعي هي الامتياز الأهمّ لدى الجيش الإسرائيلي وأمثاله، ولن يوقفه سوى ردع من جنس العمل نفسه).
المهمّ هنا هو أنّه، في الفترة الماضية، تبلورت قاعدة جديدة على الجبهة الشماليّة، فيها شبهٌ بقواعد تفاهم نيسان، ولكن مع فارق أنّ العمليات تجري داخل فلسطين المحتلّة نفسها؛ ومن الصّعب جدّاً أن تقبل المؤسسة الإسرائيلية، ببساطةٍ، بمثل هذا الواقع. الرّدع، طبعاً، هو ما يبقي الأمور، حتى الآن، على حالها. في زمنٍ مضى كان قتل وإصابة حفنة من الجنود الإسرائيليين في فلسطين قد يعنيان وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، فكيف بمئة؟ هذا والحرب لا تزال تجري على أضيق نطاقٍ وفي أصعب نقطة: الشريط الحدودي الضيّق الذي هو تحت المراقبة الدائمة وتحت عيون التجهيزات الإسرائيليّة، والأسلحة المستخدمة من جانب المقاومة لا تزال «بسيطة» (حتى المُسيّرات الانقضاضية التي وُظّفت أخيراً هي من أنواع «قديمة» نسبياً وقليلة التأثير مقارنة بما هو موجود).
وهنا جوهر المسألة تماماً، اختلاف الزّمن والقدرات. لا داعيَ للتذكير بنقاط الضعف لدى الكيان. كمثالٍ، كنّا نستذكر في حوارٍ أخير كيف أنّك، في بلدٍ مثل إسرائيل، لا تحتاج إلى تعطيل محطات الكهرباء وتحلية المياه وغيرها من القطاعات الحيويّة، كلٌّ على حدة، يكفي أن تضرب منشآت الغاز في المتوسّط حتى تتوقّف هذه كلّها معاً (وتقديري أنّ عرض المقاومة لصواريخ بحرية في بداية المواجهات لم يكن موجّهاً ضدّ الأسطول الأميركي بقدر ما كان تذكيراً لإسرائيل بمعنى الحرب ضدّنا). في الكيان، يكفي أن تخرج محطتان للطاقة عن العمل حتى يخسر البلد نصف إنتاجه، ومطاراتهم ليست كثيرة...
نحن ما زلنا في البداية، مرحلة «غشاوة المعركة»، وأنا في الأحداث العسكريّة أؤجّل الحكم وليست مهنتي التفاؤل. في حرب 2006، لم أصدّق أنّ الجيش الإسرائيلي قد تعثّر حقّاً في الجنوب حتّى انتهت الحرب، وثبت بالدليل القاطع أنّ دباباته كانت بالفعل تحاول ولا تقدر على التقدّم، وليست غير راغبةٍ بالدخول. مع ذلك، يكفي مشهد أنّ أهل القرى الجنوبيّة، هذه المرّة، ظلّوا في بيوتهم فيما عشرات الجنود الإسرائيليين يسقطون خلف الحدود، حتّى تفهم أن شيئاً ما قد تحقّق وأُنجز على مرّ هذه السنوات. هنا تحديداً الفارق بين البلد «الاسمي» والبلد الحقيقي، أن تكون لك على الورق «سيادة» و«حدود» ولكنّها اسميّة، لأنّ العدوّ يجتازها متى يشاء، وبين أن يصبح لهذه المفاهيم معنىً ماديّ. هما، بالمعنى السياسي، صنفان مختلفان بالكامل لـ«الوجود» والحياة، والحرب تدور اليوم - أوّلاً - حول الحفاظ على هذا الإنجاز (والكلّ يعرف ما كانت أثمانه). مفهوم «الثأر»، على الهامش، هو هنا تحديداً: مهما حصل لك في الحياة، فإنّ الثأر الحقيقي لن يكون عبر إشباع شهوةٍ غريزيّة في الاقتصاص والانتقام - وهذه، مهما لاحقتها، لن تصل إليها - بل يكون عبر أن تفرض نفسك في عينَي خصمك، وأن يهابك بعد أن كان يستحقرك.
لهذا السّبب تحديداً فإنّ لدى اسرائيل كلّ الحافز لأن «تدفعك إلى الخلف»، وإن كانت كلفة الحرب عليها اليوم ثقيلة، فالانتظار خمس سنوات لن يجعلها إلّا أكثر صعوبةً؛ وهذا لسان حال العديد من المعلّقين في الكيان، «لبنان بعد غزّة». ولكن هنا تحديداً يبدأ الخطأ الذي يفتعله المستكبرون، كلّما جرّبوا أن «يعالجوا» حالتنا من منظارهم، وعبر تعريفهم لذاتهم ولنا: 7 أكتوبر كانت ثمناً تاريخياً، فاتورة متراكمة، لحصار غزّة، ويعلم الله ما سيكون ثمن تدميرها اليوم. يحاربون «فتح» في لبنان فيصعد «حزب الله»، يضطهدون «أنصار الله» فتجدهم يحكمون صنعاء، يغتالون غزّة فتصبح فلسطين كلّها «حماس». كما يقول دائماً حسن الخلف: «شوف ربّك يا مسلم».

الدّخول في التاريخ
فكرة أنّ المقاومة ليست مباراة كرة قدم نتفرّج عليها لا تعني أنّ على الجميع حمل السّلاح والمشاركة، ولا أنّ من واجبك شخصياً أن تخطّط للمقاومة وتنظّر لها، بل هي تعني أنّ من واجبك أن تفهم المقاومة الفعلية على الأرض حقّاً كما هي، في سياقها وتحدياتها، وليس وفق نظرتك «التشجيعية» عنها، وإلّا فلا فائدة لمناصرتك من عدمها (وفي وضعنا اليوم، يكفي أن تجلس جانباً ولا تشارك في الحروب على المقاومة حتى تكون ارتكبت حسنةً). من هنا، فإنّ الجذريّة ليست في المزايدة الفارغة وأصوات الذين يدّعون المقاومات باستمرار - غالباً من المهجر أو من دولٍ مطبّعة - للانتحار من أجل إثبات جدّيّتها.
هناك أنماطٌ من المزايدة. توجد مزايداتٌ «حميدة» (كأن تطلب من شخصٍ أو تنظيمٍ أن يكون أكثر نزاهةً أو تواضعاً... أو التحفيز والنصيحة اللذان يأتيانِك من حليفٍ يشاركك الجبهة)، وهناك مزايدات غبية، وهناك مزايدات خبيثة. يقول أسعد أبو خليل إنّ الذين كانوا يخترقون صفوف التنظيمات الثورية في أميركا في الستينيات، لحساب المخابرات والشرطة، لم يكونوا الأعضاء الذين يدفعون، داخل المجموعة، صوب مواقف وسطيّة أو تصالحية مع السّلطة، بل كانوا أولئك الذين يدعون على الدّوام إلى أمور مجنونة ومتطرّفة وتصادميّةٍ مع القانون. وهناك من يطالب بأمور محدّدة وخطيرة، من نمط أن تضرب إسرائيل أو تمطرها بالصواريخ، ولكن من غير أن يعطيك «خطّة» أو تصوّراً متكاملاً مفهوماً أو بديلاً. «اضرب لكي تثبت أنّك رجل»، «قم بالردّ، كيفما كان، حتى نحترمك». كأن المقاومة قد وصلت إلى ما وصلت إليه عبر اتّباع منهجية «عركات أولاد الحارة» والاستماع إلى مثل هذه النصائح.
ذات يوم، حرفياً، وجدت نفسي أحدّق في وجه زائرٍ إلى بيروت جاء في زيارةٍ من أوروبا وهو يقول لي بغضبٍ وجدّيّة: لديهم صواريخ في لبنان، لماذا لا يضربونها على إسرائيل؟ ماذا ينتظرون؟ كان ذلك عام 2014 أو عام 2015، في قمّة غليان الحرب السوريّة. استوضحت ماذا يريد تحديداً؛ يضربون ماذا، ولأيّ هدف، وما ستكون الخطوة التالية؟ أجابني باليقينية ذاتها: «لا يهمّ، فليضربوا وكفى. الجميع سيقف معهم». أنا، على الهامش، معتادٌ على مثل هذه الطلبات، وبخاصّة من أناسٍ بعيدين عن سياقنا: واحدٌ يسلّمني رسالة لكي أوصلها إلى السيد حسن نصرالله، وآخر اكتشف معه بسرعة أنّه يعاملني باعتباري ممثّل الشيعة في العالم (حين دخل «حزب الله» رسمياً الحرب في سوريا، استدعاني أحد «الأصدقاء» لكي يحذّرني - يهدّدني - من مغبّة وعواقب هذا القرار).
المسألة أنّ «سلوكيّات الاستاد» هذه هي أخت النظريّة التبسيطيّة الرومانسيّة عن «التحرير»، التي تصدّق أن استرجاع فلسطين ما هو إلّا رهن قرار شجاع، «لحظة ملحمية» ننتظرها بلا توقّف، سوف تفكّك دفعةً واحدة إسرائيل والصهيونيّة. هذه الثقافة هي نتاج عقودٍ من الخروج عن مجال الفعل والواقع والتأثير، صاغتها للجماهير دعاية النظام العربي وحوارات أجيالٍ من برامج التلفزيون والمسلسلات. إنّ التحرير متاحٌ بكبسة زرّ، وهو سيحدث في معركة فاصلة كبرى ينشقّ فيها ستار التّاريخ وتعود إلينا (بحالتها الأولى قبل الاستعمار) الأندلس، أقصد فلسطين. مشكلة هذه الثقافة ليست في تبسيطيّتها أو عدم واقعيتها فحسب، بل هي، أوّلاً، في كونها سرديّة «مريحة» و«مناسبة» لمن يريد أن يصدّق أن التحرير يمكن أن يحصل بغير تغييراتٍ عميقة في بنية المنطقة وأنظمتها وثقافتها، من غير تضحياتٍ وخياراتٍ صعبة ومواجهاتٍ مع من يملك المال والسلطة من حولك. هناك فكرةٌ رائجة مفادها أنّ الأنظمة العربيّة تخون فلسطين وتتقرّب من الصهيونيّة خوفاً من إسرائيل، أنا أعتقد أنّ المسألة معكوسة، أي إنّ ما يثير فزع الأنظمة حقّاً هو فكرة تحرير فلسطين، وهو ما يمثّل تهديداً وجوديّاً لها أكثر من إسرائيل.
المشكلة الثانية، والأهمّ، هي أنّ هذا النوع من الخطاب هو فعليّاً يحضّر الأرضيّة لنقيضه، أي للحلّ «الليبرالي» و«السّلمي» للمسألة الفلسطينيّة، أو التّسليم. المقصد هو أنّه حين يكون خطابك عن الكفاح المسلّح عبثياً أو انتحاريّاً أو غير واقعيّ، سيبدو معارضه في موقع «العقلاني» والمنطقي. وهؤلاء، سواء اعترفوا بالأمر أو لم يعترفوا، يترقّبون على الدّوام هزيمةً للمقاومة حتّى يحين يومهم ويسود منطقهم. والسيناريو هنا واضح وبسيط: تُهزم المقاومة العسكرية، ويتمّ إلغاء «فتح» أو تقليصها، ويسلّم النضال ضدّ الاستعمار إلى «المجتمع المدني الفلسطيني» (أي إلى الفلسطينيين في قطر والخليج، وأولئك المرتبطين برأس المال العالمي في الداخل والمهجر).
الفكرة هنا، بتعابير أخرى، هو أن ما تقدّمه لك المقاومة، بالحدّ الأدنى، هو فرصةٌ لكي تعود إلى التّاريخ، فلماذا تصرّ على أن تعيش في «عالم سمسم»؟ بعد أن انفصل الناس ردحاً من الدّهر عن العمل السياسي والتأثير، وتركوا الميدان للمستكبرين، وانصرفوا عن العمل إلى الكلام والمقاهي والسوشال ميديا. بعد هذا كلّه لديك - ولو فكرياً - إمكانيّة للعودة إلى الواقع الفعّال بكلّ تضاريسه وتعرّجاته وصعوباته وتناقضاته، حيث لا بطولات فوريّة ولا نصر سهل (وهذه الفرصة، في العالم الحقيقي، هي أقصى ما يمكن أن تطالب به).
استطراداً، أنا أفهم أنّ كلّ حركةٍ في أيّ زمن تحتاج أن تبثّ في صفوف مناصريها أملاً - بل ويقيناً - بنصرٍ قادم محتّم، ولكنّي أرى الموضوع بشكلٍ مختلفٍ قليلاً. في كلّ خيارٍ تأخذه في الحياة جانبٌ من «رهان»؛ حتى في السياسة وفي الحرب الوجوديّة نحن نفهم - وكلّنا راشدون هنا - أن لا أحد يعرف المستقبل أو يضمن لك ما سيحصل، وأنّ التّاريخ لم ينصر دوماً القضيّة العادلة. «اليقين» عندي هو حين تؤمن بشيء، وتقتنع وتلتزم به، إلى درجة أن تكون متقبّلاً لاحتمال النّصر تماماً كما تتقبّل نقيضه، لأنّه الخيار الصحيح أو الخيار الوحيد، وهذا هو كلّ اليقين الذي تحتاج إليه. بل إنّ الحقيقة، مهما أغسقت الأيّام حولنا، هي أنّ الأمور لم تعد بهذا السّوء؛ فمعنا أفضل من في فلسطين ولبنان، ومعنا سوريا وإيران، ومعنا حشودٌ في العراق، ومعنا أولياء الله في اليمن، وأرواح الشهداء.

«حقوقنا» في الغرب
المشكلة في الخطاب البديل عن المقاومة المسلّحة، بكلّ أصنافه، هي أنّه يرتكز على مفهوم شكلي (formalist) للحقوق والقانون و«المجتمع الدّولي» والنضال «المدني»، وما إلى ذلك من أدواتٍ في جعبته. يكفي أن نفهم، في العالم الحقيقي، ما هو «الفلسطيني» في نظر هذه القوى التي يفترض أن نستميلها ونرتكز إليها في حربٍ ضدّ أشرس قوّة استعمارية في العالم اليوم. أنا أتكلّم هنا عن الخطاب الرسمي الأوروبي، لا الأميركي، وعن البيانات الأكثر «تعاطفاً» مع الفلسطينيين. في هذه السّرديّة، الفلسطيني يمتلك حقوقاً، مثل الحقّ في الحياة (شكراً)، الحقّ في «الكرامة» (كلمة مبهمة، لا محتوى محدّداً لها)... هذه «الحقوق» كلّها تنبع من فكرة «بشريّة» الفلسطيني؛ أي إنّه - بيولوجياً - إنسانٌ «مثلنا»، ينتمي إلى الفصيلة ذاتها. ولكنّه بالقطع ليس كائناً سياسياً لديه وطنٌ وإرادة وملكية جماعية لإرثٍ تاريخيّ. هذه «الحقوق»، فوق ذلك، تنطبق حصراً على «المدنيين»، الأطفال ومن هم في مقامهم، أي العزّل المحيّدين عن السياسة، أمّا أيّ فلسطينيّ يتسيّس ويقوم بفعلٍ ما ضدّ الاحتلال فهو، حتى في عقل الاتحاد الأوروبي، يصبح هدفاً مشروعاً للقتل. هنا، مفهوم «الفلسطيني» يصبح مساوياً تماماً لمفهوم «الأهالي» الذي كان يستخدمه الاستعمار الفرنسي لتوصيف الشعب الجزائري، باعتبارهم مجرّد «كائنات بشرية» موجودة في الخلفية، صودف أنّهم ينتشرون على هذه الأرض، ولكنهم ليسوا شعباً أو مواطنين أو أصحاب قرار.
لا حاجة أن نشير إلى أنّ إسرائيل بالمقابل (وهنا نحن نتكلّم عن النظام الصهيوني، والدولة الرسمية والجيش) تمتلك في الخطاب الغربي الرسمي «حقوقاً أساسيّة» لا يوجد ما يماثلها في العالم. «الحقّ في الوجود» مثلاً، لا دولة أخرى في الدنيا تمتلك ضمانةً، وحقّاً مسبقاً ومطلقاً، بأن تظلّ على حالةٍ أيديولوجية معيّنة. ماذا لو قرّر سكانها في المستقبل تغيير هويتها؟ أو تقسيمها، أو دمجها؟ ماذا لو كانت قد بُنيت على ظلمٍ وإقصاء؟ ماذا لو سقط عليها نيزك؟ أو، ما هو أسوأ، «حقّ إسرائيل في الدّفاع عن النّفس»، الذي يتمدّد ويتحوّل في لغة السياسة الغربية ليصبح حقّاً بسجن ملايين الفلسطينيين وتدمير حياتهم، أو قصف وترهيب كامل محيط الكيان وإقليمه، حتى تشعر إسرائيل بالأمان (على الهامش، قامت الحكومة الصّينية أخيراً بإعادة تعبير «حقّ العودة» إلى بيانها السنوي عن القضية الفلسطينية، بعد أن كان قد غاب لسنواتٍ عن المنشور).
يكفي مشهد أنّ أهل القرى الجنوبيّة، ظلّوا في بيوتهم فيما يُقتل الجنود الإسرائيليون خلف الحدود، حتّى تفهم أن شيئاً ما قد تحقّق. وهنا تحديداً يظهر الفارق بين أن تكون لك «سيادة» و«حدود» ولكنّها اسميّة، وأن يصبح لهذه المفاهيم معنى ماديّ


وهنا شيءٌ يجب أن يُقال عن خلط البعض بين المؤسسة الغربيّة وناقديها الداخليين، أو حين يحاولون تغطية الأولى بالثانية. يشتكي أحد الأصدقاء على الدّوام من أنّ دوراً أساسياً يلعبه اليساريّ الأوروبي اليوم وهو أن يمثّل، مع كوفيّته وماركسه، «الوجه اللطيف» لأوروبا في الخارج. وهذا ما استثمرت فيه الدبلوماسيّة الغربية بكثافةٍ وبراعة في السنوات الماضية، حتّى إنّ الكثير من الأفراد الذين قد تلتقي بهم في المؤسسات الأوروبية، وإعلامها ومنظّماتها في بلادنا، سيكونون «يساريين» على المستوى الشخصي، ويتعاطفون مع فلسطين وقد زاروها وتأثّروا بما شاهدوه، وينتقدون حكوماتهم وسياساتها بعنف. الهدف هو أن يزرعوا في رؤوسنا معادلة أنّه، رغم الدور الوحشي لأوروبا «الرسمية» في بلادنا، إلّا أنّه «لا يجب أن تنسى أنّ في فنلندا والدنمارك الكثير من النّاس الذين يناصروننا ويتظاهرون لأجلنا» (وفي إسرائيل أفرادٌ كثر يرفضون الصهيونية، وفي ألمانيا النازيّة كان هناك إنسانيون معارضون للنظام، ولكن ما علاقة هذا كلّه بسياسة هذه الدول وصراعها معنا؟ وما الذي تبغيه بالضبط من استحضار هذا الأمر؟).
بعد التجربة، وبعد كلّ هذا الدّم، يفترض أننا قد تجاوزنا مثل هذا الكلام واحتمالاته، ولكنّ اللافت هو أنّ هذه الأوهام تسود أكثر كلّما ارتفعت درجة تعليم الفرد ومستواه الطبقي. الذين يشعرون بالنشوة حين يعرفون أن مثقفاً «عالمياً» قد قال كلاماً في دعم الفلسطينيين؛ أو حين يعرف أنّ هناك حججاً تاريخية موثّقة تثبت أحقيّة القضيّة، وأن التطهير العرقي قد حصل عام 1948، وأن الصهاينة كانوا أكثر قوة بكثيرٍ من العرب... (هم ربما لا يعرفون أنّ هذا الكلام، بتفاصيله، كان يقوله مؤرّخون إسرائيليون، في إسرائيل، منذ التسعينيات، وهم إجمالاً قد تركوهم يبحثون وينشرون، ولم يفعلوا لهم شيئاً، لأنهم يعرفون أن هذه الأمور تؤثّر على النقاشات في الصفوف الجامعيّة ولا تغيّر الواقع). وهذا يظلّ مقبولاً أمام العربي الذي يؤمن بـ«المنظومة» حتّى وهي ترتكب المجزرة في أهله، فيعلن - بغضب - أنّ «القانون الدولي» و«مبادئ» النظام العالمي سوف تخسر شرعيّتها بعد غزّة - كأنّه يهدّد. أخونا هنا يعتقد أن المنظومة الدولية و«قوانينها» هي جمعية اختياريّة، تدخلها بإرادتك، وسيشيح الناس بوجوههم عنها ويقاطعونها حين يكتشفون «نفاقها»، وليس أنها نظامٌ مفروضٌ عليك بالقوّة، ليس لك صوتٌ فيه، تطيعه ببساطةٍ أو يتمّ عقابك. هذا النموذج هو تماماً مثل السجين المزعج الذي يسطّر، باستمرارٍ، الرسائل والعرائض لإدارة القاشوش.

خاتمة
هنا فكرة سوف أعرضها بطريقةٍ ابتدائية ومقتضبة، خطرت لي في هذه الأيّام التي تجبرنا على إعادة تعريف المفاهيم واللغة. فكرة «الحزب» كأداةٍ لا غنى عنها للتغيير، وقد ورثها جيل الثوريين العرب في القرن العشرين - باختلاف مشاربهم - عن التقليد الماركسي- اللينيني واعتنقوه بشكلٍ كامل حتى أصبح «الكلمة السحرية». «الحزب، الحزب»؛ إن أردت تغييراً فما عليك إلّا بالحزب. سؤالي هنا هو نظريٌّ وتجريبيّ في آن. من جهة، أنا أفهم أن يعتبر ماركس، في واقعه وسياقه، أنّ الحزب هو الوسيلة المتوفّرة لتحويل مشكلة بنيوية (انعدام العدالة مثلاً) إلى إرادة جماعيّة. ماركس يكتب في أواسط القرن التاسع عشر، حين كانت الدولة الحديثة المركزية قد ظهرت، ومعها أجهزة الأمن والمخابرات وأدوات للتحكّم بالمجتمع والسيطرة عليه، فلا إمكانية للتنظيم خارج بنيتها «الشرعيّة». ولكن، هل هذا يعني أن الحزب هو الشكل الوحيد والأزلي لتحقيق المطالب الجماعية للناس؟ وماذا كانت نتيجة تطبيق هذا المفهوم الماركسي، حين نُقل إلى سياقنا ونخبنا؟
في المبدأ، ولو أخذنا التاريخ دليلاً، فإنّ ماركس كان يجب أن يشير على الطبقة العاملة بالبحث عن التنظيم المسلّح، فهو كان أساس كلّ شرعيّة. من ابن خلدون إلى تشارلز تيللي شرح المفكّرون أنّ السّلاح والعصبيّة هما أساس كلّ نظامٍ جديد وإن بدأ كحركة اعتراض، تجدهما في الجذور القديمة لأيّ دولةٍ أو إمبراطورية. التنظيم المسلّح هو الذي يخلق النظرية و«الحزب»، وليس العكس. هذا الخيار ربما لم يكن متاحاً في أوروبا الصناعيّة، وهو كان جزءاً من جدالات ماركس مع الأنارشيين ومناصري العمل المباشر أو الإرهاب في زمنه («كتلة العمال الأساسية هي في قلب الدول وعواصمها، ماذا تريد وما هدفك؟ أن تنشئ مجموعة عمالية مسلّحة في أعالي البيرينيه؟»). ولكنّ واقعنا وزمننا مختلفان، والبوصلة والتجربة تشيران إلى السلاح، بل وانظروا ما كانت تطبيقات مفهوم «الحزب» ومصائره حين استزرع في مجتمعنا؟
عندي نظرية بأنّ النخب العربية الصاعدة في القرن العشرين - وهي إجمالاً من أصبح الكوادر الحزبية - قد أعجبها المفهوم واعتنقته لأنّه كان يناسب وضعها الاجتماعي وطموحها الطبقي. الحزب يعني اجتماعاتٍ وتنظيراً وكلاماً وتمثيلاً، وهو ما يبرع فيه المتعلمون أكثر من غيرهم. وهو لا يحتاج إلى تضحيةٍ تمنعك من المزاوجة بينه وبين الوظيفة والحياة المكتبية والصعود الطبقي. الأعمال «العنفية» كانت غالباً متروكةً لمن هم «تحت» في التنظيم، وحين كانت الحياة الحزبية تصبح خطيرة فعلاً، كما حصل في العراق بعد عام 1963، يقول حنّا بطاطو إنّ أغلب الحزبيين السابقين قد «اختفوا» فجأةً (أو اضطرّوا للفرار، فلم تكن لهم وسيلة للدفاع عن أنفسهم حين تطبق عليهم الدولة مع جندها).
المسألة هنا ليست - فقط - حبّاً في السلاح، بل هي في الأساس أنّ التنظيم المسلّح يجتذب شرائح مختلفة من النّاس ويعمل وفق منطقٍ مختلف. تخيّل الفارق بين جماعة الأحزاب وجماعة «الميليشيا». التنظيم المقاتل يجذب حكماً من له قضيّة لا خيار له فيها سوى القتال، وسيبتعد عنه روّاد المقاهي والكلام والمؤامرات، وهواة السياسة ومحبّو التظاهر. سيكون عليه أن يفكّر في تمويله واستمراريته منذ البداية، وفي اختيار الفضاء الجغرافي والبشري الذي قد يستقبل دعاته ويحتضنه ويعطيه درجةً من الاستقلالية. سوف يضطرّ، منذ التأسيس، لأن يمارس السياسة بشكلها الأقصى، وسيتبدّى في النهاية كائناً مختلفاً بالكامل. تاريخيّاً، الإمبراطوريّة هي التي تخلق «قراصنتها» ومن يحمل في وجهها السّلاح، وتجد غالباً أنّ القرصان قد أصبحت له إمبراطوريّة، أو أنّ الإمبراطورية كانت في الأصل قرصاناً. والحال أنّه، حين لا تترك القوّة لك من خيارٍ سوى أن تموت بصمت، فالشّرف هو في أن ترفع الراية السوداء.