يمكن القول إنّ الدعاية الإسرائيلية في عدوان غزة 2023 ستدخل التاريخ على أنّها الأضخم في تاريخ الكيان الصهيوني، والأشدّ كثافة وقدرة على الانتشار، وأنّها الموجة الدعائية التي شهدت أكثر المحاولات لتطوير أطروحات وأساليب جديدة. لكن في الوقت نفسه، سيُنظَر إليها على أنّها موجة بروباغندا تهاوت بسرعة كبيرة. رغم ما حققته من نجاح في الأسابيع الثلاثة الأولى من حرب الإبادة، لا تزال بروباغندا الاحتلال تتلقّى ضربات متلاحقة في الوقت الذي تستمرّ فيه محاولات إنعاشها، إمّا داخلياً (عبر اعتماد وابتكار أساليب جديدة) أو خارجياً (المساعدات التي تتلقاها إسرائيل من عمالقة السوشال ميديا مثلاً).
(لويس مازون ــ برشلونة)

في مرحلة نجاحها، ركّزت الدعاية الإسرائيلية على مجموعة من الأطروحات المرتكزة إلى التضليل والأخبار الكاذبة (قطع رؤوس الأطفال، اغتصاب النساء...) التي عبّرت عنها برسائل ومضامين دعائية، مركّبة «بنائياً»؛ أي إنّ كلّاً منها يخدم الآخر، وهي في أغلبها أصول تاريخية للدعاية الصهيونية، أبرزها: الترويج للسردية الشهيرة القائمة على أنّ إسرائيل «ضحية»، وشيطنة الفلسطينيين والمقاومة، و«التفوّق الأخلاقي والإنساني» الإسرائيلي، وإضفاء «الشرعية» على الارتكابات الصهيونية. هذا ما تؤكّده مصادر عدّة، من بينها ورقة بحثية بعنوان «الدعاية في الحرب على غزة 2023: كيف خسرت إسرائيل سرديّتها؟» نشرها رئيس برنامج الصحافة في «معهد الدوحة للدراسات العليا»، باسم الطويسي، في 31 كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي. لكن بعد انقضاء الأسابيع الثلاثة الأولى من العدوان، وتحديداً لحظة ارتكابها المجزرة الشهيرة في «مستشفى المعمداني» في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، بدأت إسرائيل تتلقى الضربة تلو الأخرى على صعيد تشكيل الرأي العام. لا شكّ في أنّ هذا الحدث شكّل نقطة انعطاف محورية في هذا الصدد، إلى جانب التوحّش الإسرائيلي عموماً والاستهداف المباشر للمدنيين ومشاهد التدمير المروّعة وتفاقم الوضع الإنساني نتيجة الحصار. كلّ هذه العوامل، دفعت الجمهور حول العالم إلى طرح أسئلة كبرى حول الصورة الحقيقية لقوات الاحتلال، والسياق الذي تقع فيه الأحداث، إلى جانب أسئلة حول جذور الصراع وأخرى عن «شرعية» ما يحصل على الأرض، ما وضع العدوّ في مأزق كبير. هكذا، بدأت بذور سردية جديدة مناقضة لتلك الصهيونية تتشكّل، ما انعكس على نتائج استطلاعات رأي أجريت في الولايات المتحدة وأوروبا، اعتباراً من الأسبوع الرابع من الحرب الإبادية. وفقاً لمجلة «تايم» الأميركية، أظهرت الأرقام تراجعاً في تأييد إسرائيل، ولا سيّما في صفوف الشباب (وخصوصاً الجيل زي) الذين يستقون معلوماتهم بشكل أساسي من العالم الافتراضي. وعلى رأس القائمة طبعاً تيك توك، وX التي بقيت تتمتّع (إلى حدّ ما) بهامش حرية أكبر مقارنةً بمنصات ميتا، حتى 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لدى زيارة مالكها إيلون ماسك الأولى إلى الكيان الصهيوني أثناء العدوان. واليوم، يُغرقنا الغرب بتقارير تحاول تفسير «كيف خسرت إسرائيل الحرب الإعلامية». تُجمع غالبية التحليلات على أنّ «حماس» تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي كأداة أساسية لـ «تشكيل الرأي العام ونشر رسالتها»، بما في ذلك نشر مقاطع فيديو وصور لعمليّاتها وآثار العدوان على غزّة، فضلاً عن مواجهة المزاعم الإسرائيلية والتأثير على الرأي العام الدولي. إضافة إلى ذلك، يرى المحللون والمراقبون أنّ المقاومة الفلسطينية استخدمت السوشال ميديا لحشد مؤيديها وإبراز أجندتها السياسية، فيما كان العالم الافتراضي «ساحة مهمّة في إستراتيجية الاتصال الخاصة بها» في الفترة الماضية.
نتيجة توصّل إليها كثيرون، أعقبت اعتماد إسرائيل على الـ «حاسبارا» (كلمة عبرية ملطّفة لبروباغندا) التي تشير إلى جهود الديبلوماسية العامة الإسرائيلية ومحاولاتها تشكيل السردية حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتشير مقالات وآراء طُرحت أخيراً إلى أن هذه الجهود فشلت في إقناع الجماهير العالمية. ويُعزى الفشل إلى عوامل عدّة، بما في ذلك استخدام مغالطات ومفارقات واضحة، وعدم القدرة على تقديم رواية مقنعة عمّا يحدث على الأرض، وتأثير التكنولوجيا الناشئة التي تتيح للعالم أن يشهد حقائق الصراع، في ظلّ زيادة الاعتماد على «صحافة المواطن». إضافة إلى ذلك، تشير المقالات إلى أنّ تكتيكات الـ «حاسبارا» كانت غير فعالة إلى حد كبير في مواجهة موجة التضامن العالمي مع غزة.
شكّلت مجزرة «مستشفى المعمداني» نقطة تحوّل كبيرة


هكذا، عمد العدوّ إلى توسيع حربه ضد غزة، عبر توظيف إستراتيجيات مختلفة. على سبيل المثال، أفاد من قوّة منصات التواصل لاستمالة الآراء والتفاعل مع الجماهير في جميع أنحاء العالم وتمرير سرديّته (الأخبار 7/12/2023). في طليعة هذه الحرب الرقمية الإسرائيلية، سلّط مدير «القسم الرقمي» في «وزارة الخارجية» الإسرائيلية، ديفيد سارانغا، الضوء على الأهمية الإستراتيجية للمجال الرقمي في الحرب الحالية التي يخوضها الكيان العبري. برأيه، يكمن الهدف الأساسي ليس فقط في «مكافحة المعلومات الخاطئة» لكن أيضاً في الوصول إلى قاعدة جماهيرية منوّعة على مستوى العالم، وإيصال وجهة نظر إسرائيل بشأن الوضع الحالي، وفقاً لما ذكر لـ «جيروزاليم بوست». هكذا، يعمل القسم الرقمي على تشكيل الخطاب وحشد الدعم الدولي، مدركاً أن الفوز في حرب الرأي العام في غاية الأهمية. القسم الذي يعمل بلغات عدّة، يتعاون مع السفارات الإسرائيلية لمواءمة السردية مع مشاعر السكان المحليين. وشغّلت الوزارة كذلك إعلانات (تحتوي صوراً تثير المشاعر والتعاطف ضد «وحشية» المقاومة تجاه الجنود الصهاينة) على السوشال ميديا شوهدت أكثر من أربع ملايين مرّة. كما أطلقت الوزارة حملة إنفوغرافيك افتراضية لمواجهة خطاب الجماعات المؤيدة للفلسطينيين، من دون أن ننسى المؤتمرات الصحافية اليومية لمسؤولين عسكريين إسرائيليين يتطرّقون فيها إلى أخبار الجبهة، وقد استحالت مع الوقت مادّة للسخرية والتندّر من الناشطين.
لكنّ كلّ الجهود الإسرائيلية الحثيثة لم تفلح في تخطّي عقبات أساسية متمثّلة في العمل الجبّار الذي تقوم به حسابات تتصدّى بسرعة البرق للدعاية الصهيونية عبر تقديم الحقائق وتبديد أي معلومات مضللة. وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى المشهد الإعلامي المتغيّر الذي يهيمن عليه الإعلام البديل وصحافة المواطن، وخصوصاً في ظلّ الظروف غير الإنسانية التي يرزح تحتها القطاع، والرقابة والتضييق الصهيوني المفروض على العمل الصحافي ودخول المراسلين الأجانب، فضلاً عن الاستهداف المتعمّد للعاملين في مهنة المتاعب الذي سجّل حصيلة شهداء غير مسبوقة. أمام هذا الواقع، يبدو أنّ العدو الذي يجرّ أذيال الخيبة، يحاول حفظ شيء من ماء وجهه عبر شرائه أخيراً مجموعة من الأدوات التكنولوجية التي تعمل ضمن منظومة واحدة (راجع مقال الزميل علي عواد في مكان آخر من الصفحة)، بهدف تضخيم سرديّته على منصات التواصل.