من مفارقات هذه الحرب أنّ أكثر النّاس في جنوب لبنان يعيشون حياتهم بقدرٍ كبيرٍ من «الطبيعيّة». أصوات القصف تبدو قريبة، وطنين المسيّرات يرافقك على الدّوام، وهناك قلقٌ من أن تصل الحرب إليهم. ولكنّ غالبية النّاس، في القرى خلف خطّ المواجهة، قد اعتادت بعد أشهرٍ من القتال على الوضع الجديد، وهي تمارس أعمالها وتذهب وتجيء بشكلٍ شبه طبيعي. البعض هنا قد يغيب عنه ثمن هذا «الأمان النسبيّ»، وكم هو استثنائيٌّ وكيف حصّلناه، وقد يغفل - وهو يستأنف حياته اليوميّة «خلف الدّرع» - أنّ رجال المقاومة يعيشون أيّاماً عصيبةً وصعبة، وأنّ هذه بتلك.كثيرٌ من اللبنانيّين لا يعرف عن حجم الدّمار في قرى المواجهة، وهو يشهد على مستوى العنف في هذه الجبهة. بيوتٌ كثيرة، بل أحياء كاملة في عدد من القرى أصبحت ركاماً (يشرح أحد القاطنين هناك أنّ ما يهوّن عليه هو كونه يشاهد بعينَيه الدّمار نفسه في المستوطنات الإسرائيلية على الجانب المقابل). لم يحصل، بطبيعة الحال، أيّ نوعٍ من الحملة الوطنية لإغاثة النّازحين أو دعم الصّامدين، بل شهدت الساحة اللبنانية - للمرّة الأولى منذ 1982 - خطاباً سياسياً في لبنان ينحاز ضدّ المقاومة سلفاً وبوضوح (وأنا شخصياً أفضّل هذا النّمط من الصراحة، وأن يُقابل - كما يقول قانون الطبيعة - بصراحةٍ ووضوحٍ مماثلَين، في القول وفي الفعل).
ولكن هؤلاء الناس اليوم لا يحتاجون إلى الدّولة، ولا إلى وسط بيروتيّ يقف جزءٌ معتبر منه مع عدوّهم وضدّهم (ضدّهم كأناسٍ وهويّة، وليس في السياسة فحسب). هم ببساطة يهتمّون ببعضهم البعض، بعد أن تعلّموا أن يدافعوا عن أنفسهم. يقول مسؤولٌ في المقاومة إنّ ما يمنع الكارثة الإنسانية ليس فعل الحزب ومساعداته، بل هو أيضاً الكمّ الهائل من التضامن الاجتماعي الذي يحصل هذه الأيّام. يقول إنّك إن احتجتَ إلى أمرٍ مكلف، فما عليك سوى الاتّصال بالرابط في القرية المعنيّة، يجيبه «اتركها عليّ»، ثمّ يدور على الأثرياء وكلّ من لديه مال، ويكون المبلغ جاهزاً في اليوم التّالي. كمية المباني والشقق التي فُتحت لمن نزحوا، لا أحد هذه المرّة يقطن في المدارس والخيام.
حياتك ليست أمراً عاديّاً، هي حياةٌ سوف تمرّ بها مرّةً واحدةً، فمن العجز أن تعيشَها بلا معنى وعقيدة


التّعبير الذي استخدمه المسؤول أعلاه هو «الثقافة قد تغيّرت». وهنا تحديداً بيت القصيد. لو كان روبرت بوتنام، عالم السياسة الأميركي، اليوم في جبل عامل، لشرح لك بوضوحٍ كيف يبني التراكم التاريخي والتجربة ثقافة تضامنٍ ومسؤوليةً اجتماعيّة، وأنّ هذا من أهمّ ما يميّز مكاناً عن آخر. الثقافة تغيّرت ونحن، بصراحةٍ، لم نولد هكذا، وهذا مختلفٌ عن مفهوم التضامن العائلي المعروف بين اللبنانيين. بل إنّ الطبيعية الريفية والعائلية لجنوب لبنان قد لا تشجّع، في المبدأ، على الالتزام الجماعي (لديّ شبه-نظريّة أنّ من أسباب نجاح الجنوبيّين المادّي الكبير في العقود الماضية، حالة التنافس العائلي والحزازيات في القرى. والتنافس العائلي يناسب فكرة التدافع الرأسمالي - بمعنى أنّك، لو ولدت فلّاحاً وجمعت مئة مليون دولار، فإنّ أمّك قد تموت في حسرةٍ لأن العائلة الأخرى جمعت مئتَي مليون). الثّقافة تغيّرت بفعل التجربة والتاريخ. هذا معنى ما كنّا نقوله عن أنّ هؤلاء النّاس ليسوا مجرّد ضحايا ولا «كتلة» (أو «بيئة»، ذاك التعبير الموارب المريب الذي لا يُستخدم إلّا معهم). بل هم أيضاً فاعلون تاريخيّون وسياسيّون، يخوضون جماعياً، منذ ما يقرب النصف قرن، تجربة سياسية تدرّبهم وتعلّمهم وتنظّمهم (وهذا، في المناسبة، هو معنى «الحداثة» في الحركات الاجتماعية).
للتدليل على الأمر، يستذكر مسؤول المقاومة أيّام ما قبل التّحرير: أن يأتي بشهيدٍ إلى المستشفى، فيقوم الأهل المكلومون أحياناً بشتمه وشتم المقاومة. اليوم تقف الأمّ بفخرٍ مع الوالد، ويتلقّون التبريكات. المسألة هي أنّك إن كنت تنظر إلى هذا المشهد ولا ترى فيه سوى علامة عن «ثقافة موت»، فهذا لأنّك لا تعرف شيئاً عن شؤون الموت والحياة. يمكن أن أتكلّم عن أمورٍ مثل «مؤسسة الشهيد» وعن ظروف إنشائها، ولماذا وكيف تمّ تأصيل مفهوم الشهادة في المجتمع. ولكن من الأفضل هنا أن نذهب مباشرة إلى قلب «الاتّهام».
قرأت مؤخراً نقداً لفكرة «الموت» في ثقافة القرون الوسطى في أوروبا (السوشيال ميديا ليست بلا فوائد). يبدو أنّ تلك المرحلة قد شهدت انتشاراً لثيمات الموت في الفنون، حضورٌ دائم لملك الموت أو المعارك أو الجماجم، وثقافة فروسية بين النّخبة تُعلي من شأن حياة المشقّة والخطورة، وفكرة أن تموت شابّاً في ساح القتال. كأنّ الناس وقتها تلاعب الموت على الدّوام. والتفسير السائد هو أنّ هذا التآلف مع الموت قد جاء بسبب مرحلة «الموت الأسود» والطّاعون، واعتياد الناس على الموت المفاجىء لمن حولهم والخوف الدائم منه. الرأي المخالف هنا كان يحاجج بأنّ المسألة قد تكون عكسيّةً بالكامل. إنّك إن نظرت إلى هذه الأمور ضمن إطارها الثقافي الأشمل، لفهمتَ أنّها لم تكن تعبّر عن خوفٍ من الموت أو تطيّرٍ منه، بل، على العكس تماماً، هي كانت تصريحاً بـ«فائضٍ من الحياة». الفكرة هنا هي أنّ التحدّي الدائم للموت يعني أنّك تريد أن تعيش «كثيراً»، وأنّ حياتك ليست أمراً عاديّاً. هي حياةٌ سوف تمرّ بها مرّةً واحدةً، فمن العجز أن تعيشها بلا معنى وعقيدة. أن يقتصر هدفك على إطالتها قدر الإمكان، وأنت تعيش خوفاً متزايداً من نهايتها. حياتك هي هبةٌ وتجربةٌ هائلة، وأنت تكرّمها وتكرّم نفسك بأن تعيشها بقوّة كما يجب، وهذا يبدأ من ألّا تخاف من الموت في سبيل ما تراه جميلاً.