لا تقتصر الاعتداءات الأميركية - البريطانية على اليمن على الضربات الجوية، بل إن ثمة معركة موازية تُستخدم فيها كل الوسائل المتاحة، من قبيل الحرب النفسية والتضليل الإعلامي. وفي رحلة البحث عن توفير أمن إسرائيل ورفع الحصار عنها في البحر الأحمر، تستخدم الولايات المتحدة كل الأوراق الممكنة، وتُخاطر في صراع لم تُؤمَّن له المقدمات اللازمة، معرّضةً قوة الردع لديها للاهتزاز، وواضعةً سمعتها على المحك. وإذ لا تترك الإدارة الأميركية مناسبة إلا وتُذكِّر فيها بأن اليمن يشكل تهديداً للأمن البحري في البحر الأحمر، وتحدياً عالمياً غير مسبوق يتطلّب عملاً جماعياً، فهي تنبّهت، بعد ما يقرب من شهرين من عدوانها، إلى أن الضربات الجوية وحدها غير كافية.ومع الوقت، يتبيّن أن أكثر الجهات واقعية في قراءة الوضع المعقّد الذي وصلت إليه واشنطن، العسكريون الأميركيون السابقون والحاليون المعنيون بإدارة المعركة. ويُجمع هؤلاء على أنّ الخيار العسكري لن يحقّق الأهداف، وآخرهم قائد الأسطول الخامس للبحرية الأميركية (مقره البحرين)، والذي اعترف، في حديث إلى موقع «مونيتور»، بأن بلاده «لا تستطيع تحمّل هذا الجهد العسكري في البحر الأحمر بمفردها، وأن هناك عدداً من المجالات الجوية، والبرية، والبحرية التي يمكن أن يُعرّض فيها اليمنيون البحر الأحمر للخطر». وإذ أقرّ بأن «قوّاته غير قادرة لوحدها على معالجة تهديد أنصار الله»، فهو دعا أيضاً، بطريقة غير مباشرة، إلى عدم تحميله المسؤولية المباشرة عن الإخفاق العسكري، بقوله إن «هذا يمتدّ إلى ما هو أبعد من البعد العسكري. فالأسلحة المدمرة شكّلت تهديداً محيقاً للسفن التجارية ولسفن البحرية الأميركية في المنطقة».
على أنه إزاء فشل ضرباتها العسكرية، لا تقف واشنطن مكتوفة الأيدي، بل إنها لجأت إلى رسم خطّة موازية، وبدأت العمل بها بهدف الضغط على صنعاء. وفي هذا السياق، كشفت شبكة «سي إن إن» أن وزارتي الخارجية والدفاع تعملان على تأليب اليمنيين العاديين والمجتمع الدولي ضد «أنصار الله» بشكل أكبر، وهما بدأتا بتحدّي رواية اليمن عبر نشر رواية أخرى، يمكن تلخيص معالمها بما يلي:
أولاً: تركّز الدعاية الأميركية على أن الاستهدافات اليمنية تؤثّر على المساعدات الإنسانية للشعب اليمني، وكذلك للدول الفقيرة في العالم بسبب تضرّر سلاسل إمداد الغذاء والدواء، وبالخصوص في الدول المجاورة لليمن من مثل إثيوبيا والسودان وغيرهما. ولا تخلو البيانات الأميركية السياسية أو العسكرية، في هذا الإطار، من إحصاءات عن الأضرار الإنسانية. وإذ تركت الولايات المتحدة السفينة البريطانية «روبيمار» التي استهدفتها البحرية اليمنية في خليج عدن في 18 الجاري وتحمل على متنها أسمدة، لتغرق، رغم وجود إمكانية لسحبها إلى ميناء عدن أو ميناء جيبوتي، فهي استثمرت هذه الواقعة لتقول إن هجمات اليمن تهدّد البيئة البحرية. وعلى ذلك، علّق أحد النشطاء اليمنيين بالقول إن «أميركا التي تقتل أبناء غزة بكل أدوات القتل، وتمنع عنهم قطرة الماء الواحدة، وحاصرت اليمن وقامت بتجويعه 9 أعوام، وقادت العدوان عليه، وأميركا التي قتلت نحو مليوني عراقي بشكل مباشر وغير مباشر، ومئات الآلاف من الأفغان، تتحدّث عن الإنسانية. أيّ إنسانية هذه التي فاضت فجأة من قلب أميركا، وأي مشهد سوريالي هذا الذي تريد للعالم تصديقه؟»
يتبيّن أن أكثر الجهات واقعية في قراءة الوضع المعقّد، العسكريون الأميركيون السابقون والحاليون


ثانياً: محاولة شيطنة اليمن عن طريق القول إن هجماته تهدّد بقطع كابلات الإنترنت التي تصل أوروبا بأفريقيا وآسيا عبر البحر الأحمر، رغم نفي صنعاء تكراراً هذه المزاعم. وفي الساعات الماضية، أُعيد هذا الطرح مجدداً بواسطة تقارير إسرائيلية، تم أيضاً تبنّيها في وسائل إعلام عربية، تقول إن عدداً من الكابلات البحرية تضرّرت قبالة سواحل اليمن. ومن بينها ما نشرته «جيروزاليم بوست» و«غلوبس» عن أن أربعة كابلات – AAE-1، وSeacom، وEurope India Gateway (EIG)، وأنظمة TGN التي تديرها Seacom و Tata Communications) – تضرّرت في تلك المنطقة (رغم أن Seacom وTGN هما في الواقع نظام واحد)، وأن الأضرار التي لحقت بها كانت نتيجة لهجمات شنها اليمن، وأن الإصلاحات قد تستغرق ما يصل إلى 8 أسابيع. في المقابل، اعتبر بعض النشطاء السعوديين أن الغرب يتفنّن في ابتزاز دول الخليج ومصر، ورجّحوا أن يكون تحالف «حارس الازدهار» وراء عملية إتلاف الكابلات لإلصاق التهمة بـ«أنصار الله»، واستدراج الخليج إلى الدخول في التحالف.
ثالثاً: تعتمد السردية الأميركية، بشكل دائم، على التشكيك في جدوى منع السفن الإسرائيلية من المرور في البحر الأحمر في رفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما تتبنّاه أيضاً دول «الاعتدال العربي». وتركّز هذه السردية، بشكل أساسي، على اعتبار هدف «أنصار الله» من العمليات العسكرية تلميع صورته في العالم عموماً والعالمين العربي والإسلامي خصوصاً. وفي هذا السياق، عمد المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، أخيراً، إلى لعب دور الذباب الإلكتروني، بإجراء مقارنة بين ما تقدّمه بلاده من دعم إنساني إلى قطاع غزة وما يقدّمه اليمن، في محاولة للتقليل من تأثير العمليات اليمنية. أما ‏وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس، الشريك الثاني في العدوان، فقال في تصريحات وُصفت بالمثيرة للدهشة والسخرية معاً، إن «الحوثيين كانوا ضد حماس عام 2015 والآن يتظاهرون دعماً لها، مستغلّين مأساة الناس في غزة». واعتبر أحد النشطاء أن مثل هذه التصريحات يتم توجيه الذباب الإلكتروني على أساسها، لنشرها ومحاولة خلق شرخ بين قوتين حليفتين، ولكن أن يُدلي بها وزير الدفاع البريطاني، فهذا دليل على أن حالة بلاده وحلفائها أصبحت صعبة فعلاً، وأن «الذباب» فشل في أداء مهمته.