حتى الآن، لا يوجد ما يكفي من أوراق ضغط، سياسية وميدانية، لدفع صاحب القرار في تل أبيب، أي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إلى وقف الحرب على قطاع غزة، والبحث في تسويات. إذ إن عوامل الدفع إلى مواصلة القتال - وإن بلا إستراتيجية تتعلق بـ«اليوم التالي» -، لا تزال أعلى بكثير من عوامل كبحه، فضلاً عن الكلفة العالية لوقفه، الأمر الذي يتيح لنتنياهو الاستمرار في التطلّع إلى تحقيق مصالحه الشخصية. كما أنه ليس لدى أصحاب الضغوط، من جهات وشخصيات، في داخل إسرائيل وخارجها، سوى هوامش ضيقة لدفع نتنياهو إلى تغيير موقفه، بل بات هؤلاء يُدفعون إلى تغيير مطالبهم، من اتفاق على إنهاء الحرب، إلى اتفاق على هدن مؤقتة، من شأنها أن تجمّد ما أمكن من الحرب نفسها، وإن لأسابيع معدودة، آملاً في تهيئة الظروف في اتجاه إنهاء القتال لاحقاً. ووفقاً للمعادلات الحالية، وحتى مع تخفيض سقوف التفاوض، لا يزال نتنياهو يعاند في تفاصيل الاتفاق الجزئي، ويماطل ما أمكن في البحث في بنوده وجزئياته، مع وضع عراقيل وطلب تعديلات وتقليص مهل وأحجام. على أنّ تراجع الوسطاء عمّا كانوا يأملون ويسعون إليه في بداية الحرب لم يتبلور إلا بعد تقدير موقف لديهم، بأن مواصلة الحرب من دون تحقيق أهدافها، تؤثر سلباً في إنجازاتها المحققة إلى الآن. وفي موازاة ذلك، لم تكُن ثمّة خيارات فعلية وواقعية ترجّح إمكانية إسقاط نتنياهو وائتلافه وفقاً لعملية سياسية داخلية، إذ تقابل تماسك الموقف الأيديولوجي لمكونات ائتلافه اليميني الفاشي، هشاشة في مركبات المعارضة، التي يتموضع جزء معتد منها إلى جانب رئيس الحكومة، ما يشكّل مناعة إضافية للأخير أمام الضغوط الداخلية والخارجية. وينطبق ما تقدّم على كلّ من الولايات المتحدة وأتباعها من الأنظمة العربية، ومن بينهم وسطاء حاليون؛ إذ يدرك هؤلاء أن ما يدفع نتنياهو إلى التمسك بمواقفه، يتمثّل في إدراكه أن الآخرين لن يواصلوا الضغط عليه، أو لن يرفعوا مستويات هذا الضغط، خشية تأثر مصالح إسرائيل سلباً، وبالنتيجة تأثر مصالحهم، ما يسفر بمجمله عن تعزيز مناعته في مواجهة مطالبهم.
تشير وثيقة نتنياهو إلى إدامة الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر في غزة، تحقيقاً لـ«الانتصار» الذي يأمله


وبعيداً من الرؤى التي تُطرح على طاولة البحث، تعمل المؤسسة الأمنية، التي تعتقد أنها أنجزت عملياً مهماتها في قطاع غزة، على فرض حقائق ميدانية لليوم الذي يلي، وفي مقدمتها تموضع دائم في منطقة عازلة داخل حدود القطاع، على أن يكون ذلك جزءاً من الدفاعات التي تعمل عليها لمنع إعادة الاستنساخ لعملية «طوفان الأقصى» في المستقبل. بمعنى آخر، تحرص هذه المؤسسة على فرض إجراءات تتيح إبقاء اليد العليا لها أمنياً وعسكرياً داخل غزة، سواء بهدف تزويد المفاوض السياسي بأوراق ضغط، أو لفرض واقع مغاير ميدانياً، في حال تعذّر التوصّل إلى تسويات. واللافت في هذا السياق، خطة نتنياهو التي وضعت على طاولة «المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية» (الكابينت)، إزاء اليوم التالي. إذ رغم أنها جاءت، كما يرى الخبراء والمراقبون، مليئة بالتناقضات، مع غموض وافتقار إلى رؤية قيادية واستشراف واقعي للمستقبل، فهي تشير إلى اتجاه واضح: إدامة الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر في غزة، وما يمكن وصفه بصوملة القطاع في حال نجاح الخطة، تحقيقاً لـ«الانتصار» الذي يأمله نتنياهو.
وبالنتيجة، قد يتبلور الاتفاق الجزئي بشأن الوقف المؤقت للقتال، والذي يعمل عليه الوسطاء، في المدى المنظور، وسط التفاؤل الكبير لدى هؤلاء بإمكانية أن تقبل حركة «حماس» به، خاصة أنه لا يسحب ورقة الأسرى منها، وإن كان يقضم قليلاً من فعاليتها، فضلاً عن إتاحته انفراجة، ولو ضئيلة، في ضائقة الفلسطينيين في غزة. أما الحرب نفسها، فهي ستتواصل، ولا سيما أنّ مدّة الهدنة التي يريدها ويعمل عليها نتنياهو، ليست كبيرة إلى الحدّ الذي يصعّب استئناف القتال في أعقابها.