يبدو أنّ اتفاق تبادل جزئي للأسرى بين العدو الإسرائيلي وحركة «حماس»، بما يشمل هدنة مؤقتة من عدة أسابيع، لا يزال عالقاً بلا مخارج منظورة إلى الآن. إذ إن الجانب الفلسطيني غير راغب في هدنة لا تكون مقدمةً أو جزءاً من اتّفاق دائم لوقف الحرب، فيما يريد الجانب الإسرائيلي تجميداً مؤقتاً للقتال بثمن إطلاق عدد من أسراه والاستعلام عمّن تبقى منهم، على أن يستأنف الحرب لاحقاً بعد جرعة راحة لجنوده، من النقطة التي تجمّدت عندها. أمّا الوسطاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، فيتطلّعون إلى تمرير الأسابيع المقبلة بلا قتال، لتقديرهم أن استمرار الحرب في رمضان، من شأنه أن يحفّز شعوب المنطقة على ترجمة تعاطفهم مع الفلسطينيين أفعالاً تؤثر سلباً على مصالحهم، التي تتماهى، وإن ضمنياً، مع مصلحة إسرائيل.حتى يوم أمس، لم ينجح الوسطاء في حلحلة العُقد، متمسّكين برواية أن «الكرة في ملعب حماس»، التي يتّهمونها بأنها تصرّ على ربط الهدنة وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، بشروط يصفونها بـ«التعجيزية». والواضح أن هذه الرواية إنما تشكّل جزءاً من الضغوط التفاوضية، ومن المعركة السياسية التي يخوضها الوسطاء إلى جانب إسرائيل، عبر الدفع بهدنة تمرّر موعداً حسّاساً (رمضان)، من دون أيّ عائد يشكّل مدخلاً لإنهاء الحرب. لكن حركة «حماس» ظلّت، حتى الأمس أيضاً، ترفض الرضوخ أمام تلك الضغوط، مستمرةً في التمسّك بمطالبها، فيما تعنّت إسرائيل يبقى موضع تفهّم أو في الحدّ الأقصى «مثار زعل» لدى شركاء، لا يصل تعاملهم معه البتّة إلى حدّ الضغط الحقيقي لوقف حرب يرى هؤلاء أنفسهم أنها استهلكت نفسها عسكرياً، لا بل باتت تقضم من إنجازاتها التكتيكية، في ظل استمرارها بلا آفاق سياسية تتلاءم مع الواقع.
في المقابل، فإن الحديث عن قرب انهيار المفاوضات، أو انعدام الأمل في توصلها إلى نتائج، يظلّ، هو الآخر، حتى بداية الأسبوع الأول من شهر رمضان، جزءاً لا يتجزأ من العملية التفاوضية نفسها، والضغوط التي يجري تفعيلها في وجه صانع القرار الفعلي في حركة «حماس»، ما يستلزم انتظار النتائج من دون التأثر بطرق التفاوض وأساليبه. لكن، على أي حال، يظلّ صعباً على الحركة قبول هدنة مؤقتة لقاء مساعدات إنسانية فحسب، بالنظر إلى أن مثل هذه الصفقة ستشكّل خسارة شبه صافية، وإن أدّت إلى هدنة سيجري محوها سريعاً من ذاكرة الفلسطينيين النازحين، بعد عودة القتال بزخم أشرس مما كان عليه.
لم ينجح الوسطاء في حلحلة العُقد، متمسّكين برواية أن «الكرة في ملعب حماس»


ميدانياً، أنهى الجيش الإسرائيلي، عملياً، عملياته القتالية الكبرى في معظم قطاع غزة، عدا أقصى الجنوب في منطقة رفح، لتنتقل الحرب بالمجمل - باستثناء أجزاء قليلة في وسط القطاع - إلى ما يسمّى «المرحلة الثالثة»، التي تعني عمليات مقلصة، بالنيران من بعد أو بتوغلات محدودة. على أنّ كل المناطق التي أنهى فيها جيش الاحتلال «مهماته»، وانسحب منها لزوم تخفيض مستوى المخاطرة ميدانياً وتسريح الجنود، عادت بشكل أو بآخر إلى سيطرة حركة «حماس»، في ما من شأنه حتماً التأثير في اليوم الذي يلي، ربطاً بالترتيبات السياسية والأمنية المنتظرة في قطاع غزة. وعليه، يسود اعتقادٌ على مستوى أركان الجيش، وفقاً لمصادر عسكرية إسرائيلية، بأنه كان على صانع القرار السياسي أن يقود الانتقال إلى المرحلة الرابعة، أي مرحلة بلورة «السيطرة المدنية» التي لم تبدأ إلى الآن، بل لم يباشَر بأي من مقدّماتها، ولكنه آثر، لأسباب شخصية وأيديولوجية، التمسك بشعار «الانتصار الكامل» الذي لا يبدو قابلاً للصرف.
بالنتيجة، عدا منطقة رفح، التي تقف عقبات عدة دون شمولها بالعملية البرية، يعمل الجيش الإسرائيلي وفقاً لإستراتيجية تتحدد يومياً على ضوء معطيات الميدان ومتغيراته، من دون رؤية شاملة أو وفقاً لسياسات أقرّها المستوى السياسي، ويعمد هو إلى ترجمتها إلى أهداف عسكرية. وعليه، فإن الجيش معنيّ بهدنة طويلة نسبياً من عدة أسابيع، من شأنها إتاحة الفرصة للدفع نحو بلورة مخارج سياسية لحرب باتت مطلوبة لذاتها، وهذا ما يشكّل وصفةً لخسارة أي جيش، مهما كانت قدراته وإمكاناته. وحتى يتبين مصير التفاوض على هذه الهدنة، تبقى التقديرات والتسريبات جزءاً من «الأخذ والرد»، لا يمكن البناء عليه للجزم بما سيحدث، وإن دلّ بنفسه على حجم الهوة العميقة بين الجانبين، وعجز إسرائيل بالتالي عن تحقيق «النصر» الذي يتيح لها فرض إرادتها سياسياً.