من منظور تاريخي، يشكل رد إيران على العدوان الصهيوني ضد قنصليتها في دمشق منعطفاً في مجرى الصراع مع الكيان المؤقت. للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر 1973، تبادر دولة من المنطقة إلى قصف مواقع عسكرية في العمق الصهيوني. بعد تلك الحرب، أصبحت المواجهة المسلحة مع هذا الكيان واستهداف مواقع في فلسطين المحتلة عام 1948، شأناً محصوراً بمنظمات مقاومة شعبية فلسطينية ولبنانية، قبل أن تنضمّ إليها أخيراً أخرى عراقية ويمنية. الحدث، بالمعنى السياسي الفعلي لهذه الكلمة، أي التطور الذي يدخل تغييراً على السير المعتاد للأمور، هو دخول قوة إقليمية كبرى كإيران على خط الصدام المباشر مع إسرائيل، وفي سياق استراتيجي دولي يتّسم باستنفار عام للغرب الجماعي لمساندة الكيان. تجلّى هذا الاستنفار في الإعلان الرسمي لقادة معسكر «العصبية البيضاء» عن قرارهم الدفاع عن فلذة أكبادهم الصهيونية، كما فعلوا بعد عملية «طوفان الأقصى»، والمشاركة المباشرة لمنظومات دفاعهم الجوية ولمقاتلاتهم في إسقاط مسيّرات وصواريخ إيرانية. لم تقتصر المشاركة المذكورة على الجيش الأميركي، بل شملت أيضاً، بحسب المعلومات الصادرة عن الجيش الصهيوني ومسؤولين غربيين، الجيشين الفرنسي والبريطاني. بكلام آخر، ودفاعاً عن سيادتها وحقها المشروع في الرد على عدوان صارخ على أراضيها - والقنصلية الإيرانية في دمشق جزء من الأراضي المشار إليها -، قررت طهران تحدي الإجماع الاستراتيجي الغربي بـ«حماية» الدور الوظيفي للكيان، باعتباره العصا الغليظة للغرب الجماعي، وتوجيه لكمة موجعة إليه، ودشنت عبر ذلك مرحلة جديدة في مسار المواجهة المديدة معه.لقد تمتع الكيان الصهيوني طوال هذا المسار برعاية ومساندة أميركية وغربية استثنائيتين، إلى درجة اعتقاد البعض بـ«حرمة» المساس به وبمواقع عسكرية تقع في عمق الأراضي المحتلة في 1948. «انتهاك» حركة «حماس» لهذه «الحرمة» كان مبرراً كافياً بالنسبة إلى قادة الغرب الجماعي لكي يسوّغوا حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة. لقد ضربت إيران أيضاً بتلك «الحرمة» عرض الحائط. وما يزيد من أهمية البعد الاستراتيجي للرد الإيراني، هو أنه يكشف واقع التحول التدريجي، ولكن المستمر، والمتسارع في السنوات الماضية، في موازين القوى في الإقليم لغير مصلحة إسرائيل، نتيجةً لعملية بناء وتطوير القدرات العسكرية والصاروخية لقوى محور المقاومة، وفي القلب منها إيران. أصوات كثيرة في منطقتنا سخرت من العملية المشار إليها، و/أو اعتبرت أنها مخصصة للاستخدام في النزاعات الداخلية التي احتدمت سابقاً في سوريا والعراق، وشككت في إمكانية توجيهها ضد إسرائيل. سيكون من الطريف الاستماع إلى حجج أصحاب الأصوات المذكورة اليوم.
مواقف متناقضة تصدر عن عاصمة الغرب الجماعي، واشنطن، حيال ما سيقوم به الكيان الصهيوني بعد اللكمة التي تلقّاها

الكلام الأكثر جدية يصدر حالياً من داخل الكيان المؤقت، وبشكل خاص من الذين يطرحون السؤال الوجيه التالي: ماذا كنا لنفعل لولا المساهمة النشطة والمكثفة الأميركية والبريطانية والفرنسية، في إسقاط المسيّرات والصواريخ الإيرانية؟ مجرد طرح هذا السؤال، ومن داخل إسرائيل، يشي بأن الاقتناع بالتفوق العسكري النوعي للكيان على محيطه، وقدرته على القيام بدور وظيفي في إطار الاستراتيجية العامة الغربية لتثبيت السيطرة على هذا الأخير، لم يعد محط إجماع فعلي. لقد أظهرت عملية «طوفان الأقصى» البطولية، ومن ثم فشل الجيش الصهيوني في تحقيق أهداف الحرب على غزة، «حدود قوة» الكيان، المتراجعة باطراد، وحاجته إلى «الحماية» و«الاحتضان» من قبل رعاته الغربيين كلما اشتبك مع قوة في الإقليم، دولتية كإيران، أو غير دولتية. «قلعة أوروبا في مواجهة آسيا البربرية»، كما وصف مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل في كتابه «دولة اليهود»، إسرائيل، في معرض تسويقه لها كحارس لمصالح الغرب لدى قادته آنذاك، أصبحت تحتاج إلى حراسة غربية على مدار الساعة.
مواقف متناقضة تصدر عن عاصمة الغرب الجماعي، واشنطن، حيال ما سيقوم به الكيان الصهيوني بعد اللكمة التي تلقاها. تنسب وسائل إعلام أميركية وغربية إلى الرئيس الأميركي إبلاغه رئيس الوزراء الصهيوني معارضته لأيّ هجوم على إيران. لكن الموقف الذي عبّر عنه جون كيربي، منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية، في مقابلته مع شبكة «سي إن إن»، والذي قال فيه إن «الأمر متروك للإسرائيليين ليقرروا ما إذا كانوا سيردّون، وكيف سيردّون»، يفيد بعكس ما قاله رئيسه. كثيراً ما اعتمد الأميركيون سياسات يطلقون عليها تسمية «الغموض البنّاء» لكونها تسمح لهم، في ظروف معقدة، ببلوغ أهدافهم. الأكيد هو أن التناقض المشار إليه لا يمكن إدراجه ضمن «الغموض البنّاء». هو كفيل بتسهيل مباشرة صديقهم نتنياهو بعدوان جديد يشعل حريقاً سيأتي على الأخضر واليابس في هذه المنطقة، ومن المحتمل أن يمتد إلى خارجها. ربما عليهم التمعّن جيداً في الكلام الصادر من طهران عن مساعد الرئيس الإيراني للشؤون السياسية والذي جزم فيه أن «الرد الذي نفذته إيران يعني تغير المعادلة وانتهاء عصر الصبر الاستراتيجي».