مع اقتراب الحَراك الطالبي في الولايات المتحدة، من إتمام أسبوعه الثالث، تَواصَل «الفيلم الأميركي الطويل» المفتوح على توسُّع محتمل ومتزايد من قِبَل إدارات الجامعات الأميركية والسلطات الأمنية المعنية، في نهج الاعتقال، في موازاة إجراءات أخرى، شملت فصل بعض الطلبة وحرمانهم من فرصة التخرّج من جهة، في مقابل إصرار منظّمي الاحتجاجات الطالبية على مطالبهم من جهة ثانية.
استراتيجيات مختلفة
يستمرّ الجدل في شأن ذلك الحَراك بين وجهتَي نظر؛ الأولى، لا تزال تتبنّاها إدارات الجامعات والشرطة، وهي رواية مالت بادئ الأمر إلى تفسير الاعتقالات في حقّ الطلبة وسواهم من المشاركين في الفعاليات التضامنية مع فلسطين (تجاوزت حصيلتها إلى الآن 600 طالب، من بينهم يهود معادون للصهيونية)، بذرائع متّصلة بمكافحة «خطاب الكراهية ضدّ اليهود» و»معاداة السامية»، قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى تبريرها بأن نشاط هؤلاء الاحتجاجي ينطوي على «انتهاك لملكية الغير»، و»مخالفة لقواعد السلوك الطالبي»، و»سياسة الجامعة»، كما حدث أخيراً في عدد من الجامعات، على غرار «أريزونا»، التي قالت إنّها «ستظلّ بيئة تحتضن حرّية التعبير»، على رغم تأكيدها، في الوقت نفسه، أن «أولويتها تنحصر في إيجاد بيئة آمنة للتعلّم»، فضلاً عن «جامعة واشنطن» في سانت لويس، حيث جرى اعتقال نحو 80 شخصاً يوم السبت، من بينهم مرشّحة «حزب الخضر» للانتخابات الرئاسية، جيل ستاين.
أمّا وجهة النظر الأخرى، فيحملها الطلبة المحتجّون، الذين ما انفكوا يطالبون إدارات جامعاتهم بقطع العلاقات الاقتصادية والأكاديمية مع إسرائيل، والتراجع عن التدابير العقابية التي تمّ فرضها على زملائهم منذ بدء الحَراك. وهكذا، تكبر رقعة الاحتجاجات المتعاطفة مع الفلسطينيين، سواء خارج الولايات المتحدة، مع انضمام طلبة إحدى الجامعات في مونتريال الكندية إلى «الهبَّة الطالبية العالمية»، أو في داخل حرم الجامعات الأميركية مع انضمام ما لا يقلّ عن سبع جامعات جديدة إلى القائمة من واشنطن وفرجينيا وميريلاند، ليتجاوز العدد الإجمالي لقائمة المؤسسات التعليمية المشاركة في تلك «الهبّة» من داخل الولايات المتحدة وحدها، الـ60 مؤسسة.
بعض الجامعات تراجعت عن خيار قمع الاعتصامات بالقوّة بدافع التخفيف من حدّة التوترات القائمة داخل حرمها


إزاء ذلك، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تلك الجامعات «عمدت إلى استخدام استراتيجيات مختلفة خلال الأسبوع الماضي، ضمن مساعيها لإخماد الاحتجاجات»، موضحة أن «بعضها تراجع عن خيار قمع الاعتصامات بالقوّة بدافع التخفيف من حدّة التوترات القائمة داخل حرمها»، على غرار «جامعة بنسلفانيا»، التي شهدت تمركز ثلة من ضباط الشرطة للفصل بين متظاهرين مؤيدين لفلسطين، وآخرين مؤيدين لإسرائيل، على رغم عدم تسجيل أيّ اعتقالات هناك، «في حين سارعت الشرطة (ونزولاً عند رغبة الإدارة) في جامعات أخرى، من مثل جامعتَي جنوب كاليفورنيا وإيموري، إلى فضّ خيام الاعتصام بالقوّة، إضافة إلى اعتقال الطلبة، وأعضاء من هيئة التدريس».

ثُغر في رواية «نورث إيسترن»
وكمؤشر إلى عدم استبعاد سيناريوات تصعيدية، لفتت الصحيفة الأميركية إلى توافد أعداد إضافية من الشرطة، بدءاً من يوم السبت، إلى داخل حرم عدد من الجامعات في سائر أنحاء البلاد، مثل جامعة «نورث إيسترن»، التي بادرت إلى استدعاء شرطة ولاية ماساتشوستس لفضّ معسكر احتجاجي أقامه الطلبة داخلها، بدعوى عدم استجابة هؤلاء لمطالب إدارة الجامعة بتفكيك خيام الاعتصام، لتكون الحصيلة اعتقال أكثر من 100 طالب. وفنّدت «نيويورك تايمز» الثغر في «سرديّة» إدارة «نورث إيسترن»، التي زعمت تعرّض المتظاهرين لليهود، خلال الاحتجاجات التي حملت دلالة رمزية عكسها انضمام متظاهرين يهود إلى صفوف المناصرين لفلسطين. وكشفت، نقلاً عن مصادر طالبية، أن «الغالبية العظمى من الطلبة في المخيّم التضامني داخل الجامعة، كانوا طلاباً في جامعة نورث إيسترن، وآخرين قدِموا من شمال شرقي البلاد، إضافةً إلى أعضاء في هيئة التدريس من اليهود المؤيّدين للاحتجاج». وكانت الناطقة باسم جامعة «نورث إيسترن»، ريناتا نيول، ذهبت من جهتها، إلى حدّ الزعم بأن التظاهرة «قد تم اختراقها من قِبَل جهات منظّمة محترفة»، متّهمة الطلبة المؤيّدين لفلسطين بـ»استخدام تعابير معادية للسامية، بما في ذلك التحريض على القتل (في حق اليهود)»، وهو أمر نفاه الطلبة المتظاهرون، مدعّمين أقوالهم بمقطع فيديو يُظهر تعرّض أحد المتظاهرين الداعمين لإسرائيل لهم بتهديدات مماثلة.
في السياق نفسه، أوردت الصحيفة نقلاً عن أحد الطلبة اليهود المشاركين، ويُدعى جاريد، استنكاره محاولات الإعلام والسياسيين في الولايات المتحدة تصوير اليهود المؤيّدين لفلسطين على أنهم «يهود كارهون لبني جلدتهم»، معتبراً أن «الخوف على سلامتي لا ينبع ممَّا يجري داخل الحرم الجامعي (من تظاهرات)، بقدْر ما ينبع، وبصورة حصرية، من التدابير التي تتّخذها الإدارة». واستنتجت «نيويورك تايمز» أن «الطلبة المحتجّين، الذين يشكّل اليهود عدداً كبيراً منهم، يتمّ تصنيفهم بشكل خاطئ، ومتعمّد، على أنهم معادون للسامية، ومؤيّدون للعنف، وذلك من أجل صرف الانتباه عن أهدافهم، والتي تشمل إجبار جامعاتهم على سحب استثماراتها من إسرائيل، ودعم الفلسطينيين، إضافة إلى الإعراب عن معارضتهم الصريحة للحرب على غزة». ووفق الصحيفة، فإن «الإقرار بمدى القلق الذي يمكن أن ينجم عن بعض جوانب ذلك النشاط، لا يعني أن تصرّفات هؤلاء المتظاهرين مُضلّلة، أو خاضعة لتأثير أجندات مشبوهة»، مشدّدة على أن ما يسعى خلفه هؤلاء الشباب «إنّما يتمثّل في قضية نبيلة، تتمحور حول إنهاء ما يمكن اعتبارها العملية العسكرية الأكثر وحشية التي تطاول مدنيين في القرن الحادي والعشرين».
ورأت الصحيفة، أن «حملة الاعتقال الجماعي في نورث إيسترن، تُعّد حملة القمع الأمني الثانية من نوعها التي تشهدها الجامعات الأميركية في بوسطن، في غضون أقلّ من أسبوع»، في إشارة إلى حملة أخرى كانت قد شهدتها جامعة «إيمرسون». وخلصت الصحيفة إلى مقارنة الدروس المستقاة من واقع العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، وتلك المستقاة من الحرب التي شرعت فيها واشنطن في فييتنام خلال خمسينيات القرن الماضي، مبيّنة أن «هناك دلائل واضحة على أن إسرائيل تخوض حرباً وحشية لا يمكن الانتصار فيها، كما فعلت الولايات المتحدة في تلك الفترة». ولفتت إلى أن «بعض الناس قد لا يحبون الشعارات التي يرفعها المتظاهرون المؤيّدون لفلسطين اليوم (في الجامعات)، والتكتيكات التي يتحرّكون على أساسها، إلا أن الحقيقة هي أن معظم الأميركيين يشعرون بالقلق فعلاً إزاء الحرب الوحشية التي تخوضها إسرائيل لاستئصال حماس»، داعية المسؤولين الأميركيين إلى تذكّر «أبشع جوانب حرب فييتنام»، عوض إرسال فرق مكافحة الشغب إلى المؤسسات التعليمية، والتسبّب بحركة احتجاجية جديدة مشابهة لما جرى في الستينيات.