قبل أيام، أفادت «القناة 13» بأن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، علّق، في سياق أحد الاجتماعات، على عودة الجيش إلى العمل في جباليا مرّة أخرى، قائلاً: «طالما أنه لا توجد خطّة سياسية لتطوير هيئة حُكم» تحلّ محلّ حركة «حماس» في القطاع، فسيتعيّن على الجيش تنفيذ حملات عسكرية مراراً وتكراراً في أماكن أخرى لتفكيك البنية التحتية للحركة، وهو ما سيمثّل، وفق ما شرح، «مهمّة سيزيفية». وما قاله الرجل، يعبّر عن أصوات قادة المؤسستَين الأمنية والعسكرية، واللتين تطالبان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، بالحسم في خمس قضايا استراتيجية تمهيداً لإنهاء الحرب في غزة ووقف القتال في الشمال، وهي: المختطفون، «اليوم التالي»، الجهة التي ستتسلّم معبر رفح بعد انتهاء العملية العسكرية هناك، القتال مقابل «حزب الله» في الشمال، وميزانية الأمن. غير أن رفْض نتنياهو الحسم في هذه القضايا، والذي يمنع الجيش من التقدّم في اتّجاه تحقيق أهداف الحرب - وفق ما يقول هذا الأخير -، بعد مرور أكثر من 220 يوماً على بدئها، قلب صبيحة ما يسمى «ذكرى الاستقلال» الـ 76، من «عيد» إلى «مأتم» في شمال فلسطين، كما في جنوبها، حيث اضطرّ جنود العدو الذين اجتاحوا جباليا، شمال القطاع، إلى معاينة وابل الصواريخ التي أُطلقت في اتّجاه عسقلان وأسدود، بدلاً من مشاهدة أسراب الطائرات الإسرائيلية في العرض الجوي الذي يقام سنوياً للمناسبة، وفق صحيفة «هآرتس».وعلّق قائد سرية في «الكتيبة 196» التي كان يتحضّر أفرادها لإعادة اجتياح جباليا، قائلاً إن «مشاهدة ذلك (إطلاق الصواريخ) بعد مرور سبعة أشهر ونصف شهر على بدء الحرب، أمرٌ محبط»، مضيفاً: «على ما يبدو، سنضطر إلى العودة من أجل مواجهة الإطلاق المنفرد (للصواريخ)». على أن معظم المقاتلين يتجنّبون الخوض في الأسئلة السياسية، أو السبب وراء عودتهم إلى جباليا، وخصوصاً أولئك الذين يخدمون في الخدمة النظامية والضباط الدائمون. «صحيح أن الضباط لا يتأفّفون من المهمّة الماثلة أمامهم، ولكن جميعهم يصفون الوضع الحالي، بالمهمّة السيزيفية»، وفق ما نقلت عنهم الصحيفة؛ علماً أن الجيش الإسرائيلي أعلن، قبل أكثر من أربعة أشهر، عن «حلّ» كتائب «حماس» في شمال قطاع غزة، حيث عادت «الفرقة 98» إلى القتال في جباليا بعدما انتهت قبل خمسة أسابيع فقط من «مهمّة» خانيونس. وفي هذا الإطار، قال قائد «الكتيبة 196»، يعيلي كورنفيلد، في مقابلة مع «هآرتس»: «عدنا إلى المكان الذي تريد حماس التمركز فيه، وباتت هذه المنطقة (جباليا) حربية بكل ما للكلمة من معنى»، مضيفاً: «يوجد هنا أولئك الذين لم ننجح في القضاء عليهم في المرّة السابقة، وأولئك الذين فرّوا وعادوا». ووفقاً لكورنفيلد، فإن قواته «مدرّبة هذه المرّة بشكل أفضل. ففي المرّة السابقة، احتاج الجنود إلى أن يستوعبوا ما الذي يعنيه ميدان القتال، ولكن بفضل قتالهم في المنطقة في المرّة السابقة كوّنوا معرفة وخبرة». ولكن الأمر ينطبق كذلك على «حماس»، إذ بيّن «القائد» «(أنّنا) في منافسة تعلّم مقابل حماس... نلاحظ أنهم غيّروا من تكتيكاتهم وباتوا يركّزون على تفخيخ المباني».
ورأت الصحيفة أن العمليات المستجدّة للجيش في جباليا ومناطق أخرى في شمال القطاع، بينها على سبيل المثال حي الزيتون جنوب مدينة غزة، «تدّل على أمرَين: الأول، أن الجيش لم يقدّر جيداً حجم البنية العسكرية التي تمتلكها حماس في القطاع؛ والثاني، أنه بعد انسحاب الجيش، تسارع حماس إلى إعادة تأهيل صفوفها واستجماع قواتها لتتمركز مجدداً في الفراغ الذي يتركه الجيش. وما استجماع القوى هذا، سوى نتيجة لغياب استراتيجية سياسية لليوم التالي». وإضافة إلى تخوّفهم من العودة مرّة ثالثة إلى المناطق التي حاربوا فيها سابقاً، يتخوّف جنود وضباط الاحتياط، بحسب الصحيفة، من مسألة استدعائهم بموجب الأمر ثمانية الذي تحوّل على ما يبدو إلى «أمرٍ مفتوح بلا أفق يحدّد نهايته».
ووفقاً للباحث في «مركز الدراسات الفلسطينية» في جامعة تل أبيب، ميخائيل ميلشتاين، فإن هناك «تشوّهات كثيرة في المفهوم الإسرائيلي حول قطاع غزة، بدءاً من الاعتقاد بأن حماس مرتدعة، مروراً بتقديرات وأفكار نمت خلال الحرب وتبيّن أنها أمنيات في الأساس، مثل الشعور بأن الحركة قريبة من الانكسار، وأن بالإمكان إقناع قيادتها بمغادرة غزة». وعلى الرغم من تخلّيها عن التصوّرات السابقة حيال الحركة، باتت إسرائيل تتبنّى أفكاراً جديدة تعكس عدم فهمها «حماس»، وهذه الأفكار، يقول الباحث، «تقود فعلياً إلى الإحباط، بسبب عدم النجاح في تحقيق أهداف الحرب، وفي مقدّمتها هزيمة الحركة».
وفي مقالته التي نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، اعتبر ميلشتاين أن إحدى ركائز الأفكار الخاطئة، هي التوصيف الذي تطلقه إسرائيل على الحركة، باعتبارها «منظمة إرهابية»، بينما هي «حركة تتمتّع بليونة وقدرة عالية على التأقلم مع المغيّرات، وحتى بعد استهدافها بشدّة، فإنها تنجح في الصمود وكذلك في الحفاظ على مكانتها كجهة مركزية في القطاع». وحذّر من فكرة العمليات المركّزة (العمليات الجراحية الموضعية/ الغزوات الموضعية - كتلك التي نفذّتها القوات في مستشفى الشفاء وحي الزيتون)، باعتبارها ستؤدي إلى انهيار الحركة، قائلاً إن ذلك «لن ينجح من دون احتلال دائم».
وهكذا، فإن الإحباط النابع من «المهمّة السيزيفية»، قاد بعض الإسرائيليين إلى طرح خطط، بعضها قائم على افتراض أن الواقع في غزة سيتغيّر في حال وجود حكم بديل لـ«حماس»، أو ضمن صفقة أوسع تشمل تطبيعاً مع السعودية وتسوية مع السلطة الفلسطينية. ولكن في مقابل هذه الخطط، فإن «حماس لا تعتزم أبداً التنازل عن الحكم». وبحسب الباحث، فإنه حتى في حالة القضاء على كتائب «حماس» الباقية في رفح، فإن «الحركة ستسيطر على الحيّز العام مواصلةً إدارة القتال في مناطق مختلفة». ولتضمن إسرائيل السيطرة على معبر رفح ومحور «فيلادلفيا»، ستضطر إلى البقاء هناك فترة متواصلة، حتى لو لم يرافق هذا الوجود اجتياح واسع النطاق لكل المدينة.
أمّام هذا الواقع، رجّح أنه في «في أفضل الأحوال، ستسمح حماس باستقرار بدائل ستكون غطاءً تجميليّاً يضمن استمرار هيمنتها»، لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تعمل الحركة على «محاربة كل بديل لها». وبناءً على ما تقدّم، فإن عدم رغبة/ قدرة إسرائيل على احتلال القطاع، يستدعي عملياً أن تلتزم «بصفقة مختطفين باعتبارها الجهد المركزي، وهو ما يستدعي أيضاً وقف الحرب وتحرير أسرى فلسطينيينن، والانسحاب من غزة»، على أن تستغلّ إسرائيل فترة الهدوء لوضع استراتيجية للتعامل مع المسألة الفلسطينية تكون بديلاً من إدارة الصراع وأحلام «السلام الاقتصادي» التي اتّضح أن نتائجها كانت «كارثية» على إسرائيل.