رام الله | لعلّ من الممتع رؤية وجه غولدا مائير، الآن، بينما أظفار أحفاد النكبة وأنيابهم تهشّم وجه إسرائيل، كما لم يفعل أحد من قبل، منذ 76 عاماً. هؤلاء الذين جَزمت مائير أنهم سينسون بلادهم مع مرور الزمن، بعد أن يموت كبارهم، ها هم يعيدونها إلى سيرتها الأولى. لم تكن «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر، مجرّد عملية عسكرية أو فدائية نفّذتها المقاومة، بل كانت حلم العودة الذي امتشق بندقية وصار حقيقة، وحقّق العبور إلى الأرض المسلوبة، ولو لساعات، ورسم خريطة طريق للجيل القادم.في الذكرى الـ76 للنكبة، يرى الفلسطينيون، اليوم، بلادهم كما لم يروها من قَبل؛ فقد نفض «طوفان الأقصى» غبار 76 عاماً من سياسات التطويع والتسويات والطمس والمشاريع الغربية، وكل المكر العربي والغربي لاستكمال بيع فلسطين، أو ما يسمّيه هؤلاء «سلاماً وتطبيعاً»، لتستيقظ الطنطورة ودير ياسين واللد وتمتزج بدماء أبنائها في كلّ شبر في غزة، ولتغدو فلسطين حاضرة في كل محفل وعاصمة حول العالم. وإذ تحلّ ذكرى النكبة لهذا العام بالتزامن مع حرب الإبادة المستمرة على القطاع، فإن الدرس الأول الذي تعلّمه الفلسطينيون في الـ48، واختُبروا به اليوم فعليّاً وبشكل مروّع، ونجحوا فيه، وهو عدم السماح بتكرار الترحيل والهجرة مرّة أخرى مهما غلت الأثمان. وهكذا، فإن مشهد الذين اضطرّوا إلى النزوح داخل غزة تحت لظى القصف والحرق، ولا يزالون يرفضون الهجرة إلى الخارج، بل ومشهد مئات الآلاف من الذين أصرّوا على البقاء في مدن شمال غزة، سيظلّ محفوظاً للتاريخ الذي سيكتبونه، وللمستقبل الذي سيصنعونه. وكما قاتل الفلسطينيون بإمكاناتهم البسيطة، قبل 76 عاماً، للدفاع عن وطنهم، وراهنوا آنذاك على «جيوش الإنقاذ» العربية أن تهبّ لاسترداد فلسطين، ها هم اليوم، وبعد نحو ثمانية أشهر من حرب الإبادة، لا يزالون يشمّرون عن سواعدهم للقتال، مع فارق أنهم لا يراهنون اليوم سوى على المقاومة وقواها.
لقد أرادت إسرائيل لعدوانها على غزة أن يكون نكبة جديدة للفلسطينيين، أو كما سمّاها قادتها، «حرب استقلال ثانية»، أو «حرب وجود»، لكن الفلسطيني حمل أشلاء أبنائه ليبدّد أوهاماً كثيرة وإلى الأبد، مردّداً: «لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع! لا الماء عندك، لا الدواء، لا السماء، ولا الدماء... ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء...»، وهو بات يدرك اليوم أن بعض الأنظمة العربية كانت سبباً في نكبته عام 1948، كما هي سبب في إبادته عام 2024. وإذ يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم، فإنهم يعيشونها على شكل حرب إبادة شاملة يوميّاً، وصلت إلى حدّ مطالبة مسؤولين إسرائيليين وأميركيين باستخدام السلاح النووي ضدّ هؤلاء، في وقت تقدَّر فيه قوّة القنابل والمتفجرات التي أُلقيت على قطاع غزة بقوّة عدّة قنابل نووية من التي أُطلقت على هيروشيما وناغازاكي. ورغم ذلك، فإنهم باتوا اليوم أكثر إيماناً أن هذا الكيان لن يُعمّر طويلاً، أو على الأقلّ أن المشروع الاستعماري الغربي بدأ بالانهيار، وهو إيمان لا ينطلق فقط من تمسُّكهم بحقّهم، بل بما يُقرأ من معطيات على الأرض.
ضربت عملية «طوفان الأقصى» القاعدة الأساس التي قامت عليها إسرائيل، أي توفير الأمان للمستوطنين


هكذا، تحلّ ذكرى النكبة الـ76 على الفلسطينيين فيما نشوة الانتصار لم تفارقهم؛ ذلك الانتصار المتمثّل في إذلال «الجيش الذي لا يُقهر» في 7 أكتوبر، وإحداث شرخ في قاعدة هذا الكيان، الذي دائماً ما روّج لقوّته وبطشه، وقدرته على توفير الأمن لـ«مواطنيه»، وسطوته على المنطقة. لم تكن إسرائيل سوى جيش أُقيمت له دولة؛ واليوم، بات هذا الجيش على المحكّ، فيما تثار حوله الكثير من الأسئلة بعدما تلقّى هزيمة 7 أكتوبر، ولم يستطع حسم المعركة المستمرة في غزة منذ 8 أشهر. كما اتّضح أن هذا الكيان لا يمكنه النجاة من دون الدعم الغربي والعربي له، حيث انبرت عشرات الدول لإنشاء جسور إمداد عسكرية وغذائية وصناعية لمصلحته؛ ورغم ذلك، يقول اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي، إسحاق بريك، إنه «لا فائدة من استمرار القتال في غزة وإسرائيل ستتكبّد أضراراً جسيمة، كما أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى انهيار جيش الاحتياط والاقتصاد».
وتُضاف إلى كلّ تلك المؤشرات، التي يرى فيها مراقبون وخبراء، بداية النهاية للمشروع الصهيوني، الخلافات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي بين المتدينين والعلمانيين، وفقدان الثقة بالجيش، والتحوّل في الرأي العام العالمي. وقد أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «معاريف»، يوم الجمعة الماضي، أن ثلث اليهود في إسرائيل لا يريدون أن يعيش أولادهم وأحفادهم في هذه البلاد، وأن ثقة الإسرائيليين في الحكومة والجيش تراجعت بشدّة، ومعها منسوب التفاؤل من 50% إلى 35%، في وقت تتزايد فيه معدلات الهجرة المعاكسة.