بالمعنى الفلسفي الهايدغري العميق، ليست اللغة مجرّد أداة يملكها الإنسان إلى جانب غيرها من الأدوات، بل إنها ما يضمن إمكان الموجود وسط الوجود؛ «مصير اللغة يرتكز دائماً في حياة شعبٍ ما على علاقته بالوجود» (مارتن هايدغر). انطلاقاً من ذلك، يكتب الشاعر الفلسطيني الشفّاف مروان مخّول قصائد وكلماتٍ ويطلقها في المدى. على عكس ما كان يسمعه من محيطه في بداية طريق الكتابة حول انعدام جدوى تأثير الكلمة على العالم، وانتهاء زمن الشعر، يرى مخّول الآن حالةً لم يتوقّعها: «كتبتُ بيت شعرٍ صغيراً ونشرتْه «دار الساقي» على غلاف كتابي «أين أمي» عام 2015: «لكي أكتبَ شعراً ليس سياسياً يجب/ أن أصغي إلى العصافير/ ولكي أسمع العصافير يجب/ أن تخرس الطائرة». يقول لنا صاحب «أرض الباسيفلورا الحزينة» من فلسطين: «هذا البيت انتشر في السنوات الأخيرة في عددٍ من دول العالم وبأكثر من لغة، وفقط مع العدوان الأخير على غزة انتبهتُ إلى أنه تُرجم إلى معظم لغات العالم واقتبسه ونشره المئات من الملايين، وقد تصدّر أيضاً تظاهرات العالم المناشدة بوقف إطلاق النار». ويردف قائلاً: «هذا الكم من عدد الاقتباسات التي تشمل مشاهير العالم، من ممثلين ولاعبي كرة قدم، إلى عارضات أزياء، ورؤساء دول وجمهوريات، وتحويل بيت شعر مماثل إلى جداريةٍ شاخصة الآن في عدد من مدن العالم، كان له دور ــ ولو بسيط ولكن أكيد ــ في لفت النظر إلى حقّنا المتواضع في حياةٍ عادية خالية من الخوف الوجودي والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية في الحياة. لقد أثّرت أيضاً جملةٌ صغيرة كهذه على الصعيد الشخصي. إذ تتولى دار نشر إيطالية ودار هولندية حالياً ترجمة أعمالي في كتابين منفصلين، وسأشارك في إطلاق النسخة الهولندية في أمستردام في منتصف آب (أغسطس). وكذلك، بسرور، اختارني «المهرجان العالمي للشعر» في قبرص مطلع نيسان (أبريل) لأشارك فيه ضيف شرفٍ. وكذلك شاركت في نهاية الشهر نفسه كضيف شرف في «المهرجان العالمي للكتاب» لعام 2024 الذي أُقيم في إيرلندا، وقريباً في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر)، سأشارك في كلكتا (مهرجان شعر في الهند)».
يعتقد مروان أنّ لهذه المشاركات تأثيراً ولو قليلاً في دفع القضية الفلسطينية إلى واجهة اهتمام العالم. يرجو فعلاً أن تخرس الطائرات لأنه يريد بالفعل أن يكتب قصائد غير سياسية. الأمر الآن متعلّقٌ بنظره بصمود الإنسان الفلسطيني واستمرار ازدياد التضامن لدى شباب العالم معه. هذا الإنسان الذي يواجه أصعب أنواع الاحتلال، وهنا يعني الاحتلال الذي لا يرى نفسه محتلاً، بل ضحيةً تدافع عن نفسها بشهامة وأخلاقية عاليتين (!)، «مع أن الحقيقة على العكس من ذلك، فقسوة هذا الاحتلال ووحشيته نابعتان فقط من عقدة الخوف التاريخي الذي ما زال محفوراً في لا وعيه منذ الهولوكوست. المسألة الآن مسألةُ وقتٍ، المطلوب هو صمود الإنسان الفلسطيني، تماماً مثل لعبة عضّ الأصابع! فالقائل «آه» أوّلاً، هو الخاسر» على حدّ تعبيره.
منذ الحرب الأولى على غزة وبعد الانسحاب منها، كتبَ قصيدة «صورة آل غزة»، التي تحدّثت عن مشاهد جرت وقتذاك وتكرّرت الآن بتطابقٍ شديد في الصوَر. أما في العدوان الأخير على القطاع، فكتب قصيدة أخرى بعنوان «نيو غزة» ورافقه في الإلقاء صوت أميمة الخليل في الغناء. تطوّع أصدقاؤه من شتى دول العالم لترجَمتها إلى 24 لغة لتنتشر كالنار في الهشيم «على أمل أن نطفئ نار العدوان الإسرائيلي. لا أعرف لماذا كانت لغزّة تحديداً حصّة الأسد من بين الأمكنة الفلسطينية المنبسطة والمتاحة للاضطهاد، والظلم، والعنف. ربّما لأنها أكثر تلك الأمكنة التي دكّها الاحتلال في العقدين الأخيرين».