أثناء إدلائه بشهادته أمام المحكمة الخاصة بلبنان، الشهر الماضي، أبلغ المستشار الإعلامي للرئيس الراحل رفيق الحريري هاني حمود، بعد أدائه قسم اليمين، أن وزير الداخلية السابق إلياس المرّ، «قال لي بعد فترة من اغتيال الرئيس رفيق الحريري إنّه بعد الاغتيال بدأ يعتقد بأنّ ما اكتشفته القوى الأمنية لم يكن مخطّطاً لتفجير السفارة الإيطالية، بل ربّما مخطّط لتفجير الرئيس رفيق الحريري». حمود استند إلى معلومات سياسية أبلغه إياها المرّ، تبيّن بعد المراجعة أنّها خلاصة استنتاجات أمنية بعد توقيف مجموعة إسماعيل الخطيب التي كانت تنوي استهداف السفارة الإيطالية في وسط بيروت، وتراقب تحرّكات الحريري على ما يؤكّد لـ»الأخبار» ضابط رفيع شارك في توقيف مجموعة الخطيب، وأخطرهم أحمد سليم ميقاتي، وأشرف على التحقيق معهم.
وتفرض إفادة حمود سماع شهادة المرّ وإفادات ضبّاط قوى الأمن الداخلي الذين كانوا مسؤولين عن توقيف شبكة الخطيب المرتبطة بتنظيم «القاعدة» في العراق، للتحقّق من الرواية، بموازاة إيعاز المحكمة إلى مكتب المدعي العام الكندي نورمان فاريل للتحقيق فيها بشكل أوسع، بعدما أهملت لجنة التحقيق الدولية المستقلّة في عهد مواطنه دانيال بيلمار والبلجيكي سيرج برامرتز اعترافات «مجموعة الـ 13» التابعة لتنظيم «القاعدة»، وخصوصاً السعودي فيصل أكبر الذي أقرّ عام 2006 امام فرع المعلومات بمشاركته في اغتيال الحريري، مدلياً بتفاصيل لم يكن احد يعلم بها من المحققين، ثم «تراجع» عن إفادته تلك، كما أنّ المنطق يفرض أن تبادر المحكمة إلى الطلب من وزارة العدل اللبنانية أو النيابة العامة التمييزية تزويدها بكامل ملفّات الجماعات الإسلامية الموجودة في حوزة القضاء.
فهل تبلّغت لجنة التحقيق الدولية المستقلّة معطيات المرّ وضبّاط «فرع المعلومات» ، واستمعت إليهم حول حقيقة ما جرى؟ ولماذا لم تلحظ المحكمة جدّياً هذه الشبكة، كما لم تلحظ من «مجموعة الـ 13» واعترافاتها، وخصوصاً أنّ هاتين المجموعتين تصبّان في خانة «الأصولية الإسلامية»؟
الإيقاع بالخطيب وميقاتي
ما هي قصّة مجموعة الخطيب، من ألفها إلى يائها، بحسب المسؤول عن التحقيق معها في أيلول من عام 2004؟
قبل أسبوع تقريباً من كشف «شبكة الخطيب»، اتصل المدير العام للأمن العام آنذاك اللواء جميل السيّد بالمرّ وأبلغه أنّ الملحق العسكري الإيطالي في بيروت أبلغه بأن أمن السفارة يشتبه بشخص يتجوّل في محيط السفارة والبرلمان. جرت متابعة الأمر مع رئيس «فرع المعلومات» العقيد منذر الأيوبي الذي كلّف مجموعة استقصائية التحرّي عن المشتبه به، فجرى رصده وتحديد مكان وجوده في مخيّم عين الحلوة، وتبيّن أنّه أحمد سليم ميقاتي، المتواري هناك بعد اشتراكه في قتال الجيش مع «مجموعة جرد الضنية» تحت قيادة بسّام كنج، الملقّب بـ «أبو عائشة». عمل «فرع المعلومات» على استدراج ميقاتي إلى محلّة سباق الخيل في بيروت وأوقفه. وبالتحقيق معه اتضح أنّه على ارتباط بخليّة إرهابية مركزها مخيّم عين الحلوة، ومتصلة على نحو مباشر بمجموعة أخرى في بلدة مجدل عنجر وأنحاء أخرى من محافظة البقاع.

يفترض أن تطلب المحكمة من النيابة التمييزية تزويدها ملفّات الجماعات الإسلامية



أحيط توقيف ميقاتي بكتمان، وأُرغم على الاتصال بمجموعة مجدل عنجر للإيحاء بأنّه حرّ طليق، ونفذّت في موازاة ذلك خطّة دهم لهذه المجموعة حيث جرى توقيف رئيسها الخطيب ومعه 15 شخصاً بينهم امرأتان. وبالتحقيق معهم، اعترفوا بالإعداد لتفجير السفارة الإيطالية التي تبعد أمتاراً عن مقهى «الإتوال»، الذي كان الحريري يتردّد إليه لمجالسة نوّاب ووزراء وإعلاميين، وذلك عبر التسلّل من الجهة الشرقية الخالية من أيّ مراقبة لكونها تضمّ آثاراً رومانية.
أدلى الموقوفون باعترافاتهم انسجاماً مع كونهم يشكّلون مجموعة عقائدية لا تخفي استعدادها لتنفيذ أيّ عملية في سبيل القضيّة التي تؤمن بها، فيما رفضوا إعطاء أي معلومة عن المتفجّرات والأسلحة، مشيرين إلى أنّها «سلاح شرعي لا يجوز الإفشاء عن مكانه». إثر ذلك، كلّفت مجموعة من «المعلومات» مراقبة أيّ تحرّكات مشبوهة في بلدة مجدل عنجر. وبعد 48 ساعة، رصدت حركة حفر في حديقة منزل شخص من آل صوّان، سبق له أن قتل في العراق، فجرت مداهمة المكان وضبط الأسلحة والمتفجّرات وتوقيف صاحبة العلاقة مع قريبة لها وعدد من الأشخاص كانوا يستخرجون الأسلحة والمتفجّرات لنقلها إلى مكان آمن بالقرب من بلدة قبّ الياس البقاعية، حيث ضبطت لاحقاً كمّية أخرى من الأسلحة والمتفجّرات.
ووفقاً لمحاضر التحقيق الموجودة لدى النيابة العامة التمييزية، فإنّ الأسلحة المضبوطة هي: 300 كيلوغرام من المواد المتفجّرة والشديدة الانفجار من نوع «سي فور» (C4)، حوالي مئة رمّانة يدوية، وأسلحة فردية، وبزّات عسكرية، وأجهزة اتصال، وخرائط، وتجهيزات عسكرية، بما فيها زورق «زودياك» القابل للنفخ والمخصّص للعمليات البحرية.
عقد المرّ مؤتمراً تناول فيه الكثير من تفاصيل هذه الشبكة الإرهابية. وأثير لغط حول استهداف السفارة الإيطالية، حيث تبيّن لاحقاً ممّا أسرّ به المرّ إلى بعض الشخصيات السياسية والإعلامية، واستنتاجات الأيوبي وضبّاط «المعلومات»، أنّ هذه العملية ربما كانت تستهدف الرئيس الحريري. وذهبت الاعترافات إلى القول إنّه جرى الإعداد لتفجير سفارات عدّة للتمويه بحجّة أنّ دول هذه السفارات تشارك في التحالف العسكري الدولي في العراق. ويفسّر خبراء أمنيون ذلك بأنّ بعض العمليات الارهابية تُموّه بأهداف أخرى لصيقة لإحباط المجموعة المكلّفة وتفادي رفض عناصرها تنفيذ العملية.
بعد ذلك، تتابعت الأحداث على نحو دراماتيكي، فتعرّض الخطيب لأزمة قلبية داخل زنزانته في مبنى «فرع المعلومات»، وما لبث أن فارق الحياة، ليتسبّب موته غير المتوقّع، بموجة احتجاج غاضبة ضد مركز الأمن العام في المصنع.
ويختم الضابط اللبناني كلامه لـ «الأخبار» بأنّه بعد اغتيال الحريري، تأكّد الأمنيون اللبنانيون من صحّة استنتاجاتهم السابقة، بأنّ المخطّط كان يقوم على تحقيق هدفين في آن معاً هما: السفارة الإيطالية والرئيس الحريري، الذي كان يتردّد إلى مقهى «الإتوال» المحاذي للسفارة، وبالتالي فإنّ ربط عملية تفجير السفارة باغتيال الحريري لم يأت من فراغ، ولا سيّما أنّ الاغتيال حصل بعد مرور خمسة شهور على شبهات السفارة الإيطالية وتوقيف مجموعة الخطيب.