رغم إقرار الوكيل السابق لوزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل بأن واشنطن تنفق نحو مليار دولار سنوياً في لبنان يذهب معظمها إلى وسائل إعلام وإعلاميين، ورغم التركيز الأميركي على درس خصائص الرأي العام عبر الذكاء الاصطناعي والاستطلاعات وغيره، ورغم مئات الورش التدريبية التي تنظّم سنوياً لبناء القدرات، تواجه السفارة الأميركية في لبنان معضلة حقيقية على ثلاثة مستويات:الأول، الافتقار إلى ما يمكن وصفه بـ«القادة الشباب» من المؤثّرين والمؤثّرات في الرأي العام. في إحدى المراحل، كان هناك مروان حمادة وكتّاب «النهار»، عقاب صقر وكتّاب «ناو ليبانون»، فارس خشان وتلفزيون «المستقبل»، الياس عطا الله ويساره الديموقراطي، كارلوس إده وكتلته الوطنية، أنطوان حداد (والراحل نسيب لحود) ولقاؤه الديموقراطي، فارس سعيد وأمانته العامة، إضافة إلى فؤاد السنيورة وإلياس الزغبي وإيلي ماروني ومصطفى علوش ومصباح الأحدب وهادي حبيش وغطاس خوري وباسم السبع وعمار حوري وأحمد فتفت ونديم عبد الصمد وجمال الجراح ونايلة معوض ونوفل ضو وبطرس حرب... لكن هؤلاء جميعاً خرجوا من المشهد. وما كادت انتخابات 2022 تنتهي، حتى كان الناشطون والناشطات ممن بدأ الاستثمار فيهم عام 2012 «يشمّعون الخيط» ويحزمون حقائبهم لتحقيق أحلامهم بعيداً عن بيروت، حتى بدا وكأن صلاحيتهم انتهت هم أيضاً، أو أن العقود (المعنوية) التي توقّعها السفارة الأميركية مع «شركائها المفترضين» تخدم لعشر سنوات غير قابلة للتجديد. هكذا فإن الفريق السياسي الذي لم يكن فندق «بريستول» يتسع لشخصياته عام 2005، لا يجد من يمثله اليوم سوى مكرم رباح وبيتر جرمانوس وإيلي محفوض وطوني أبي نجم واثنين أو ثلاثة إضافيين، ممن لا يمكن أخذهم بجدية أو مقارنتهم بالجيل الأول من الأبواق الأميركية.
الثاني، استبدال الخطاب السياسي بالشعارات. حين يخطب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، مثلاً، يحرص على تبسيط الحدث العام وشرحه، فيشعر الطالب وربّة الأسرة والمسنّ بأنه يحيط بالمسألة من جميع جوانبها. وفي موازاة ذلك، يرصد الحزب الصحافة الأجنبية والإسرائيلية وتوزيعها على المناصرين والندوات والبرامج التلفزيونية والمقالات ومراكز الدراسات لتعزيز ما يوصف بالثقافة السياسية و«الإحاطة» التفصيلية بالحدث. في المقابل، يكتفي الفريق الآخر (سمير جعجع نموذجاً) برصِّ الشعارات بعضها فوق بعض لتقديم «خطاب سياسي»، من دون أيّ عرض للوقائع أو المشاكل والحلول وغيره. وإذا كان كلّ من الأسلوبين يؤدي غايته على المدى القريب، فإن تجربة كل من تيار المستقبل و17 تشرين تؤكد أن الشعارات لا تصمد على المدى البعيد، ولا تصنع رأياً عاماً ثابتاً ومقتنعاً ومتماسكاً وقادراً على الصمود في حال تعرّض لما تعرّض له الحزب خلال العقدين الماضيين. وإذ تعزو قوى 14 آذار بؤس حالها إلى ما تعرّضت له من اغتيالات، فإنّ التدقيق الموضوعي يبيّن أن قادة 14 آذار تعرّضوا فعلاً لهذه التهديدات. لكن، في المقابل، طاولت التهديدات، والاغتيالات، ليس قادة الحزب فحسب (وأبرزهم عماد مغنية)، بل أيضاً قاعدته جراء عقوبات اقتصادية ومنع من السفر والعمل وحروب مع إسرائيل والتكفيريين. لذلك، فإنّ ما أوصل قوى 14 آذار إلى ما هي عليه اليوم ليس ما تدّعيه، بل الاكتفاء بالشعارات بدل وضع مشروع متماسك مع خريطة طريق واضحة في تحديدها للمسؤوليات. واللافت أنه في أيّ نقاش هادئ مع القوات أو الكتائب أو غيرهما حول ضرورة تقديم مشروع، يكون الجواب شعارات أيضاً لا تخلو من التخوين والتخويف.
الثالث، تحوّل الأحزاب إلى ماكينات انتخابية والقواعد الشعبية إلى مجرد كتل ناخبة لا أكثر، على غرار ما بدأه تيار المستقبل منذ عام 2005، حيث ثمة قائد وحيد وشعارات للتعبئة وناخبون يتقاضون بدلات مالية وخدمات استشفائية وتربوية. وتكرر القوات والكتائب والتغييريون اليوم ما فعله تيار المستقبل قبل عشرين عاماً، رغم وضوح نتائج هذا الأسلوب، إذ يمكن لهذا النموذج أن يربح دورة انتخابية أو اثنتين، لكن لا يمكنه تأمين الاستمرارية كما تفعل القوى التقليدية التي قد تنحني أمام العواصف السياسية، لكنها سرعان ما تستعيد مكانتها. وإذا كان كلٌّ من النواب التغييريين يلعب بمفرده في دائرته، من دون فريق عمل حقيقيّ أو حزب أو جمعية أو حتى تعاونية، فإن حزب الكتائب الذي كان قبل سنوات قادراً على تقديم أربع أو خمس شخصيات يمكن التفكير في مشاهدتها في حال إجرائها مقابلة تلفزيونية، لا يملك اليوم سوى النائب سامي الجميل، من دون صف ثانٍ أو ثالث أو رابع. أما في القوات، ورغم ما يتردّد منذ سنوات عن «المدرسة الحزبية»، يصعب العثور على خرّيج واحد منها، لا بل يحرص المحازبون، بمن فيهم مهندسون، على التأكيد أنهم لم يدخلوا المدرسة يوماً. في المتن الشمالي، الذي يعدّ أكثر الدوائر الانتخابية تسييساً، لم تجد القوات خريجاً واحداً من مدرستها المفترضة ترشحه للنيابة، فاستعاضت عنهم بالوزير السابق ملحم رياشي الذي عمل سابقاً مع النائب الراحل ألبير مخيبر ثم الوزير السابق الياس المر، والنائب رازي الحاج الذي تنقل من «شباب النهضة» في مراهقته إلى تأسيس «مستقلون» عام 2006 ثم «حكومة الظل الشبابية» عام 2008 فمستشاراً لوزير الاقتصاد عام 2010، من دون أن تكون له علاقة بالقوات يوماً، قبل أن يقرر سمير جعجع ضمّه إلى لائحته في المتن. وحاله في ذلك حال زياد حواط في جبيل وغادة أيوب في جزين وغيرهما ممّن يتقاطعون مع القوات في مرحلة الصعود ويبحثون لاحقاً عن استمراريتهم في مكان آخر، كما فعل غيرهم من الطبقة نفسها مع التيار الوطني الحر. وعلى غرار الكتائب، ليس في القوات طبقة وسيطة بين رئيس الحزب والقاعدة. ورغم محاولة كل من شارل جبور ومسؤول جهاز العلاقات الخارجية في القوات ريشار قيومجيان ومسؤول جهاز التنشئة السياسيّة شربل عيد إيجاد مكان لأنفسهم، فإن متابعتهم تفيد بطلب جعجع منهم تنفيس احتقانهم على منصّة X لا أكثر. واللافت هنا أن هناك ناخبين تأخذهم الماكينة الخدماتية المالية إلى الانتخابات كل أربع سنوات خلف بعض الشعارات، لكن لا يوجد رأي عام يتابع أو يدقّق بين دورة انتخابية وأخرى، وهو ما يفسّر الحاجة الأميركية ربما إلى تغيير الطقم السياسي والإعلامي كل عشر سنوات: ثمة كتلة سياسية متماسكة تعتبر المضمون أهم من الشكل، تقابلها كتلة سياسية غير متماسكة تعطي الشكل أولوية وتضطرّ كل عشر سنوات إلى تصنيع «ثورة» وتوزيع «فولارات» وطناجر ومكانس في استنزاف يمكن أن يفيد مرة أو اثنتين أو ثلاثاً، لكن لا يُعوّل عليه لبناء واقع سياسي مستدام.
لا يمكن لدولة أن تنظّم ثورة وتموّلها وتديرها في بلد كل عشر سنوات لتحافظ على نفوذها فيه


اليوم، تضع بكركي عشرة بنود عن مخاوف رئيسية، يمكن تفصيل كل منها في عشرات الصفحات، فيجيب رئيس حزب القوات بكلمتَي «طبخة بحص». يُسأل عن الدور المسيحي والديموغرافيا والتحدّيات والهواجس والوظيفة فيجيب: «قتال الشيعة». يُقدّم الجيش تحقيقاً مفصلاً مدعّماً بموقوفين وأدلّة وصور وتقارير أطباء شرعيين، فتجيب زوجته: «الجريمة سياسية حتى يثبت العكس»، من دون أن تشرح كيف يثبت العكس أو لماذا لا تثبت هي أنها جريمة سياسية. تقدّم الصحافة الغربية والأميركية والإسرائيلية تقارير تفصيلية عن تداعيات الضربة الإيرانية التي استنفرت العالم وتصدّت لها إسرائيل بالأقمار الاصطناعية وكامل تكنولوجيّتها وسلاح الجو والبر والبحر، فتصف القوات وحلفاؤها ذلك كله بكلمة واحدة: «مسرحية». يمكن هذا أن يفيد مرحلياً، لكن لا يمكن التعويل عليه للمستقبل، وهو ما تعرفه واشنطن جيداً وتتصرف على أساسه. أخرجت السعودية نفسها بنفسها من هذا المشهد كله لأنها تأكدت من عبثيته، سبقتها أو تبعتها فرنسا، وستتبعها عاجلاً أو آجلاً الولايات المتحدة أيضاً: لا يمكن لدولة أن تنظّم ثورة وتموّلها وتديرها في بلد كل عشر سنوات لتحافظ على نفوذها فيه. حين بدأت الولايات المتحدة الإنفاق في لبنان، كان على رأس الطاولة في القاعة الرئيسية في البريستول كل من سعد الحريري ووليد جنبلاط ومن كانوا يوصفون بمسيحيّي 14 آذار. بعد إنفاق عشرين مليار دولار، يجلس اليوم بيتر ومكرم في الصف الأمامي.