حديقة تتوسطّها مجموعة كتب منحوتة من الحجر
المعرّي حاضرٌ أيضاً
من طرائف المفارقات أنّ «الميكرو» الذي يقوده أبو فراس يعمل على خطّ «محاصر» بشاعرين تفصل بين عصريهما نحو ألف عام، فنقطة الانطلاق هي منطقة «المعرّي» (تسميته الرسميّة حي «الحميدية»). واستمدّت المنطقة اسمها من اسم واحدة من أقدم مدارس حلب وأعرقها «ثانويّة المعرّي» المسمّاة بدورها على اسم الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعرّي (أحمد بن عبد الله القضاعي المعرّي 973 -1057 م). مقابل المدرسة تتوضّع «حديقة المعرّي» التي تحوّلت في سنوات الحرب إلى مقبرة يدفن فيها أبناء المنطقة موتاهم، شأن كثير من حدائق حلب. لا يعرف والد فراس شيئاً عن ارتباط منطقة «المعرّي» بالشعراء، لكنّه يعرف أنّ «دوّار أبو ريشة» قد سُمّي «على اسم شاعر حلبي مهم». نسأله: «أتعلم أنّ ذلك الشاعر ينحدر من مدينة منبج؟»، فيجيب بالنفي، ويضيف «ليش إشّو الفرق؟ من يوم يومها منبج شقفة من حلب». نقول: «بس الأوضاع تغيّرت اليوم، صار في أميركان بمنبج»، فيشير بيده إشارة ذات دلالات بذيئة ويقول «حط بالخرج، كلّو بيرجع متل ما كان... الله كريم».
«الباب» بعيدة
على أرض الواقع تبدو الأمور أعقد من التبسيط الذي يُشير إليه الرجل، فلبلوغ منبج ينبغي خوض رحلة طويلة تمرّ عبرها الحافلات بحواجز ونقاط تفتيش، وتقتضي حيازة المسافر مسوّغات تخوّله الحصول على موافقة لدخول المدينة الخاضعة لسيطرة «قوّات سوريا الديموقراطيّة». ولا تقتصر الإجراءات المعقّدة على الراغبين في زيارة منبج في حدّ ذاتها، بل تنطبق أيضاً على المضطرّين إلى المرور بها للوصول إلى مناطق خاضعة للاحتلال التركي في ريف حلب الشرقي. يتطلّب الوصول إلى آخر نقاط سيطرة الجيش السوري التابعة لمدينة الباب (ريف حلب الشرقي) رحلةً قصيرة تستغرق قرابة أربعين دقيقة، تقوم بها حافلات صغيرة تنطلق من منطقة «سدّ اللوز» (حيث لا يوجد سدّ ولا لوز) التابعة لحي «الشعّار»، ويتوجّب على الراكب الواحد دفعُ أجرة مقدارُها مئتي ليرة (أقل من نصف دولار). يختلف الحال إذا كان الراكب يبغي الوصول إلى مدينة الباب (40 كلم شرق حلب)، أو نقاط في محيطها خاضعة للمجموعات المسلّحة تحت راية الاحتلال التركي. وعلى رغم أنّ الرحلة تستغرقُ نظريّاً ساعةً على الأكثر انطلاقاً من «الكراج الشرقي» في حي «الشعار»، فإنّ المسار المتاح عمليّاً يتطلّب القيام برحلة قد تستغرق ثمانية عشرة ساعة أو أكثر. على باب الكراج يقومُ شخصان يرتديان لباساً عسكريّاً بتفتيش الداخلين وسؤالهم بفظاظة عن الوجهة التي يقصدونها. تنطلق من هذا الكراج حافلاتٌ نحو مناطق عدّة في أرياف حلب، معظمُها خارجٌ عن سيطرة الدولة السوريّة. ويخبرنا أحد السائقين على خط «حلب ــ الباب» بأنّ الرحلة تتطلّب الانطلاق أوّلاً نحو منبج (80 كلم شمال شرقي حلب) حيث يتوجّب على المسافرين مغادرة الحافلة، واستقلال أخرى غيرها نزولاً عند تعليمات «قوّات سوريا الديموقراطيّة» التي تسيطر على المدينة. بعدها تنطلق الحافلاتُ البديلة في اتجاه الجنوب الغربي وتقطع مسافة تقارب 30 كيلومتراً للوصول إلى مناطق «درع الفرات»، وتتكرّر إجراءات التفتيش والتدقيق على يد المجموعات المسلّحة، ثمّ استقلال سيارة جديدة تقطع قرابة 20 كيلومتراً للوصول أخيراً إلى الباب.