تتفاقم الأزمة التي تعيشها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة – فرع تنظيم القاعدة السابق في سوريا)، في مناطق سيطرتها في إدلب وجزء من ريف حلب الشمالي، إثر فشل محاولة انقلاب زعيمها، أبو محمد الجولاني، على «رفاق دربه»، بإقصائه عدداً كبيراً منهم بحجة «الكشف عن شبكة عملاء تعمل لصالح استخبارات غربية». وتحوّل «ملف العملاء» الذي حاول عن طريقه رجل «القاعدة السابق» التخلص من الشخصيات الكبيرة ذات النفوذ في «تحرير الشام»، والتي تشكل تهديداً لمنصبه «قائداً» لجماعته، من سلاح في يده، إلى سلاح مصوّب نحو رأسه، وسط اصطفافات جديدة، وانقسامات حادّة بين قياديّي «الهيئة»، وتظاهرات مستمرة للأهالي في مناطق سيطرة «تحرير الشام»، أصبحت أكثر جرأة وحدّة في مطالبها التي وصلت إلى رفض سيطرة «الهيئة»، والمطالبة برحيل زعيمها. ويأتي ذلك بعد اكتشاف الممارسات التي كانت تتم داخل سجون الجولاني، من تعذيب وقتل، وقيام قياديّين سابقين تمكّنوا من الهرب من مناطق نفوذه، بالكشف عن مجموعة كبيرة من الملفات التي حاول التستر عليها، من بينها تورّطه هو نفسه في «ملف العملاء»، وتقديمه خدمات كبيرة للاستخبارات الغربية، وعلى رأسها الأميركية، تتعلق بنشاط ومكان وجود «جهاديين» قامت واشنطن باغتيالهم.من جهته، كشف جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، القيادي السابق في «الهيئة» - الذي هرب إلى ريف حلب الشمالي، حسبما أفادت مصادر «جهادية»، «الأخبار»، في وقت سابق، وفشلت محاولة الجولاني في القبض عليه بعد تدخل الجيش التركي، الذي قام بالتحقيق معه قبل أن يفرض عليه «الإقامة الجبرية» -، عبر سلسلة تغريدات نشرها على موقع «X»، أن الرجل الذي أوكل إليه الجولاني مهمة التحقيق في «ملف العملاء»، هو «أبو عبيدة منظمات». وفيما أشار «زكور» إلى أن «منظمات» هو الشخص الذي كان ينظم عمليات جمع المعلومات والتواصل مع الاستخبارات الغربية، أوضح أنه كان يقوم بهذه المهمة منذ ثلاثة أعوام، مضيفاً أنه أبلغ الجولاني أكثر من مرة، حول الشبهات التي تدور حول «منظمات»، وأن الجولاني كان يرد في كل مرة بأن المذكور لا يقوم بأي تصرف من دون الرجوع إليه، وأنه مطّلع على أدقّ التفاصيل.
وتتقاطع المعلومات التي نشرها القيادي السابق، مع التأكيدات المستمرة من مصادر «جهادية»، أن «الجولاني» كان يقود بنفسه عملية التواصل مع الاستخبارات الأميركية والبريطانية، ضمن محاولاته تسويق نفسه على أنه «قائد معتدل»، وأنه قام مقابل ذلك بتقديم خدمات عديدة تتعلق بأنشطة «الجهاديين»، من بينها ملف «جماعة خراسان» التي قامت واشنطن بتصفيتها في إدلب، بالإضافة إلى زعيم تنظيم «داعش»، أبو بكر البغدادي، الذي اغتالته الولايات المتحدة في ريف إدلب، ضمن منطقة تسيطر عليها «الهيئة».
ينذر وعد الجولاني بـ«الضرب من حديد»، وسط استمرار التظاهرات، بتوسع المواجهات


وبعد أن حاول الجولاني تجاوز الأزمة الداخلية التي تسبب بها «ملف العملاء»، عبر إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين في سجونه، ومن بينهم القيادي العراقي، ميسر الجبوري، المعروف باسم «أبو ماريا القحطاني» الذي كان يُعتبر «الرجل الثاني» في الهيئة، انقلبت المحاولة ضده، إذ بدأت تظهر تكتلات جديدة وتحالفات مناوئة له، يلعب فيها «القحطاني» دوراً مهماً، خصوصاً أنه يتمتع بحضور كبير داخل الأوساط «الجهادية»، وهو أحد مهندسي تحوّلها من التبعية لـ«القاعدة» إلى فصيل «جهادي» يحاكي تجربة «طالبان»، عبر محاولة إنشاء «إمارة» ومأسستها، وتسويقها على أنها معتدلة.
وفي أول ظهور له بعد أزمة «العملاء»، بدا «رجل القاعدة» السابق مرتبكاً، وهو يتنقّل في حديثه بين التهديد تارة، والمحاباة تارة أخرى، في مشهد يعيد إلى الأذهان تجربة ماضية مرّ بها الجولاني قبل نحو سبع سنوات، عندما قام بتعيين هاشم، الشيخ القائد السابق لـ«أحرار الشام»، زعيماً شكلياً لـ«الهيئة»، وتابع عمله في قيادتها من تحت الستار. وأعلن الجولاني، خلال كلمة له أمام عدد من الفعاليات، أول من أمس الثلاثاء، استعداده للتخلي عن قيادة «الهيئة»، بالقول: «ليس هناك خلاف على السلطة، تستطيعون الاتفاق على شخص يسمع له أغلبكم بنسبة 60 و70%، وأنا معه، وأسلّمه كل ما عندي، وليقُد المحرر وليأخذه إلى بر الأمان، وإذا اتفقتم عليه في هذه الجلسة فأنا معه».
وبالتوازي مع عرضه التخلي عن السلطة، شنّ «الجولاني» هجوماً غير مباشر على خصومه، عبر التهديد بـ«الضرب بيد من حديد». وقال: «هناك خطوط حمر يجب أن يعيها الجميع، خطوط حمر أرجو ألا يصل أحد إليها، وأرجو أن توقفوا من يسعى لخراب المحرر، لأنه إذا تدخّلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد». وأضاف: «دعونا نعشْ بالمحرر جميعاً بسلام وأمان، لا تعيدونا إلى المربع الأول، هذا الكلام بناءً على معلومة وليس تحليلاً، هناك من تضرر من الانضباط في المحرر، مستغلاً المطالب المحقّة والحادثة الأخيرة التي حدثت، بعد هذا المجلس أرجو أن يكون الأمر قد حُل. العودة إلى الوراء خط أحمر بالنسبة إلينا». وإلى جانب ذلك، عرض الجولاني خطة «إصلاح» مؤلفة من سبعة بنود، تتضمن تشكيل مجلس استشاري، وإعادة تشكيل «جهاز الأمن العام»، والدعوة إلى انتخابات «مجلس الشورى العام»، و تشكيل «ديوان المظالم والمحاسبة»، و «جهاز رقابي أعلى»، بالإضافة إلى وعود بـ«توسيع دور الفعاليات الأهلية».
إلا أن عروض الجولاني المأزوم داخلياً، قوبلت بتواصل الرفض الشعبي له ولـ«هيئته»، وسط مطالبات باستمرار التظاهرات التي تستغل شهر رمضان وصلاة التراويح لزيادة زخمها، الأمر الذي ينذر، في حال نفّذ وعوده بـ«الضرب بيد من حديد»، بتوسع المواجهات، وزيادة الشقاق، في ظل التكتلات والاصطفافات الجديدة التي تسبب بها الجولاني نفسه.