انتهى المشهد المسرحي في لبنان وجميع العاملات والعاملين فيه، يشهدون على هول الإبادة الجماعية، التي يعيشها سكان غزة، بفعل آلة الحرب الإسرائيلية... المسرح الذي شهد عروضاً، واحتفالات ومهرجانات في عام 2023، همد منذ السابع من أكتوبر أمام فظاعة المشهد والمجازر، في حين استمرت بعض العروض المبرمجة من قبل. هذا العام، كثرت النتاجات المسرحية، مقارنة بالأعوام السابقة، كان بعضها ذات قيمة فنية عالية، في وقت كان فيه الانحطاط أو العجز يحيط ببعض الأعمال الأخرى. لكن بنظرة سريعة على 2023، يمكن القول إنّ مجمل الأعمال المسرحية ساءل، أو وثّق، أو حاكى تحوّلات المدينة، وكوارثها، وأحلام سكانها، ومخاوفهم وهواجسهم.تثبت بيروت، عاماً بعد آخر، أنّ مسرحها ينتج حتى في السياقات المعقدة. الحركة المسرحية اللبنانية كانت نشطة في 2023. بين مهرجانات محلية، أو عروض خاصة أو مستقلّة، تنوّعت الأعمال المسرحية بين كلاسيكية، وتجريبية، وتفاعلية، ومعاصرة. ونالت بيروت، الحصة الأكبر منها، بفعل التهميش الثقافي وعدم تطبيق اللامركزية الإدارية.
في ما يخص الفضاءات الثقافية في المدينة، بقي «مسرح المدينة»، و«مونو»، و«زقاق» الأكثر فعاليةً في 2023، في وقت تعرّض فيه «دوار الشمس» لحريق، تصدّعت معه بنيته، وبدأ يعاود نشاطه أخيراً. وجذب «مونو» عدداً كبيراً من الجمهور بسبب ازدحام جدول العروض التي لم تتوقف طوال العام. وحافظ «مسرح المدينة» على إطار عمله، وبرمجته المعتادة لمهرجان «مشكال» الذي لم يلق أصداء كبيرة في 2023. وغاب عن مسرح «زقاق»، أبرز مشروع سنوي ينظمه، وهو مهرجان «أرصفة زقاق»، الذي يقدم عروضاً ومسرحيات ذات تجارب متنوعة. على مستوى الفضاءات المسرحية أيضاً، أغلق «منشن» في زقاق البلاط، الذي شكل لسنوات فضاءً حراً للتجريب والاختبار المسرحي. وكان لافتاً تلقي استديو «أملغام» في الحمرا، الدعم بفعل حملات الدعم المالي، بعدما كان مهدداً بالإغلاق بسبب الأزمات الاقتصادية، في حين انتقل «مترو المدينة» إلى فضاء «أريسكو» في الحمرا، بزخم كبير ومشاريع عديدة، سرعان ما تراجعت وتيرتها بسبب الحرب على غزة. وبرز استديو «لبن» الذي نظم مهرجانات وعروضاً بشكل دوري. وشهد 2023 رحيل جيرار أفيديسيان عن عمر ناهز 79 عاماً، وسامي خيّاط أحد رواد المسرح الفكاهي في لبنان.

رائدة طه في «غزال عكا» (غسان عفلق)

على مستوى آخر، لا يمكن إغفال تبعات الانهيار المالي الذي لحق في «الجامعة اللبنانية»، وانعكاسه على «معهد الفنون الجميلة» الذي كان يشكل «مصنعاً» لتخريج طلاب المسرح، الذين قد يصل عددهم إلى 40 سنوياً، وبقيت ورش العمل وبرامج ومنح دعم المؤسسات الثقافية البديلة، مساحةً بديلة لهم، للتعلّم والاختبار وتلقي الدعم والإرشاد، في حين تبرز الأسئلة حول الدعم الدولي، من الجهات المانحة، وخصوصاً في هذه الظروف التي تحتّم استقلالية الفن، وخروجه عن سلطات الرقابة، الحكومية خاصةً، وربما قد تكون الدولية في المستقبل القريب، بفعل انهدام الديموقراطيات الكبرى.
تنوّع المسرح في 2023 بين التجريبي، والكلاسيكي، والراقص أو الحركي، والكوميدي، والتفاعلي... كان الجمهور على موعد مع أعمال تعكس أسئلة الراهن الذي يعيشه، في حين بدت أخرى بعيدة عن ذلك، ولم تخرج من الحتميات، والأشكال المألوفة.
من جملة العروض اللافتة العام المنصرم، «إذا هوى» لعلي شحرور، الذي قُدم في قالب جمالي معاصر، وعبّر بطريقة مغايرة عن النظم الكلاسيكية، وخصوصاً أنه يحصر التعبير باستخدام حركة الجسد. جمع العرض أيقونتين من المسرح اللبناني، هما روجيه عساف وحنان الحاج علي، اللذين لم يجتمعا في عمل مسرحي واحد، منذ «بوابة فاطمة» التي قُدمت آخر مرة بعد حرب تموز 2006. كانت بيروت «هي المسرح والمسرحية» وفقاً لما قال روجيه عساف في سياق العرض. تجاوز الجسد استيتقيّة الحركة، وأعاد النظر في معنى الرقص، وكيفية تعاطي الجسد مع هشاشته، كما حمل أسئلة حول المصير الجماعي، انطلاقاً من تجارب شخصية، وخبرات، وهموم، تنطلق من الخاص، وتصل إلى العام. أتيح، أيضاً للجمهور في بيروت، مشاهدة «الرقص مش إلنا» لعمر راجح، الذي كان ذا مضمون شائك، وتركيبة فنية متماسكة، وقدم بشكل مختلف عن النسق الكلاسيكية. يحوم العرض الراقص في سياقات متعددة، على مستوى الاقتصاد، والسياسة، والسوسيولوجيا، وطرح قضايا ترتبط بالفوقية، والسلطة، والجماعة، والتمرد، والحلم، ضمن شكل مسرحي راقص. وكان للأداء الحركي حصة أيضاً، إذ قدمت نيفين كلاس «فَصْل»، وهو عرض تجريبي، تأتي فيه الحركة مترافقة مع الباطن الدفين. كان العرض خارجاً عن المألوف، وغير متوقع، وشكلت الحركة والانفعالات والارتجالات لحظات آنية، وفرضت بجسدها استجابة جمالية وانفعالية في نفوس الجمهور. في الإطار عينه، قدمت يارا بستاني «وادي النوم» الذي يمثل الصراعات الداخليّة التي يعيشها كلّ إنسان.
كان لافتاً في 2023، التمرد على الأشكال المسرحية التقليدية والعلبة الإيطالية والاستعمال الصارم للأشكال الدرامية، تحديداً في عرض «2048 - تَحَلّلْ هَوِيَة» للمخرج اللبناني الفلسطيني علاء ميناوي، الذي كرّس في هذا العرض التفاعلي سؤال الانتماء، والهوية، والعلاقة بالأماكن، انطلاقاً من عدم منح الأم اللبنانية الحق بإعطاء الجنسية لأولادها. ومن العروض التي قدمت في 2023، «حديقة غودو» لأدهم الدمشقي، الذي عكس تداعيات الصدمة التي خلّفها انفجار الرابع من آب 2020 على المفاهيم الوجوديّة والعاطفيّة، والانتماء إلى بيروت. ومن جملة الأعمال المتنوّعة، «ورد وياسمين» للمخرج هاكوب درغوكاسيان، الذي أعاد إحياء نصّ «روزماري وجينجر» للكاتب الأميركي إدوارد آلان بيكر، وأدخلنا في واقعية فنيّة تبعث على التساؤل حول شكل العلاقات الإنسانية وانكساراتها، أمام جبروت الأنظمة الأبويّة. وفي السياق عينه، قدمت مسرحية «غمّض عين، فتّح عين» من تمثيل سينتيا كرم وفؤاد يمين، وكتابة وإخراج سارة عبدو وكريم شبلي، وهو عمل تراجيكوميدي، خاض القيمون عليه غمار تجربة إنتاج جديدة، تقوم على التمويل الذاتي، والحصول على رعاية عدد من الشركات المحلية. وقد أعاد المخرج المسرحي كريم دكروب إحياء ريبرتوار «مسرح الدمى اللبناني» الذي يأتي بعيداً من الوعظ الأخلاقي والأبوي.
خارج بيروت، بقي المخرج والفنان المسرحي، قاسم اسطنبولي، يحيي المهرجانات في صور وطرابلس، ويقدم العروض، التي تستقطب جمهور الهوامش، الذين حرموا من مشاهدة المسرح. وقُدّمت النسخة الثالثة من مهرجان «آخر أيام الصيفية»، الذي تنظمه جمعية «بيت سرمدى»، ليكون واحداً من المشاريع الفنية والثقافية والإنمائية في الشوف. كذلك، حاول فضاء «مسرح إشبيلية» في صيدا، استقطاب عدد من الفعاليات والورش الفنية والعروض المسرحية في محاولة لتنشيط المدينة.
على صعيد آخر، قدّم «مسرح شغل بيت» عرضين من إخراج شادي الهبر، من تمثيل ماريا الدويهي هما «آخر بروفا» و«رحيل الفراشات» من تمثيل زينة ملكي وألفت خطار، خلافاً لما يقدمه من أعمال مع الهواة الذي يخضعون لبرامج تدريب مسرحي مكثف، إضافة إلى بعض العروض، التي لا تزال تستقطب عدداً كبيراً من الجماهير، ما يضع على عاتق المسؤولين عن «مسرح شغل بيت» (يتخذ من أحد بيوت منطقة «فرن الشباك» فضاءً له) مهمة التجديد ووضع الجيلين المعاصر والقديم في وحدة متناغمة، هدفها نقل المسرح إلى مسارات جديدة، فاعلة وأكثر عمقاً. وبقي المخرج اللبناني برونو جعارة يستكمل حفلات الضحك المجاني وحفلات التهريج على خشبة «مونو»، تحديداً في مسرحيتي «رايحين جايين» و«حماتك بتحبك» فيما أعاد يحيى جابر عرض «مجدرة حمرا» لأنجو ريحان الذي حظي بأصداء جماهيرية. واختتم 2023، مع عروض المسرحيات الصغيرة الثلاث لمشروع «أربعة أمتار مربعة للتحدّث» الذي تنظمه جمعية «شمس» سنوياً، ومن المقرر تطوير النصوص لاحقاً.
تبرز الأسئلة حول الدعم الدولي من الجهات المانحة، وخصوصاً في هذه الظروف التي تحتّم استقلالية الفن


ومن التجارب المهمة التلاقح الثقافي بين سوريا ولبنان، الذي تُرجم على شكل أعمال مسرحية لبعض الفنانين السوريين الصاعدين والمحترفين في بيروت. فكان عرض «البغل» لأنس يونس الذي يطرح قضايا الهجرة والموت ومعنى البطولة في بلاد المأساة وانعكاساتها على الأفراد وأحلامهم وآمالهم. كما قُدِّم عرض «الأشجار ترقص أحياناً» للسوري أسامة حلال، في عدد من المناطق والمحافظات اللبنانية. العرض الأدائي الموسيقي ساءل العلاقة بين مفهوم الحياة والموت، البناء والهدم، والعلاقة بينهما، واستخدم الأغاني لإبراز أهمية الحكايات الشخصية وتأثيرها. كما قدم كفاح الزيني عرضه «بردى» في استديو «لبن»، وقدمت الراقصة والكوريغراف سارة المنعم في «زقاق» عرض «طريق» الذي يبحث في بصيص حرية، عبر الحركة الجسدية. وعلى خشبة «دوار الشمس»، قدم المنذر الدمني عرضه «توق» الذي يبحث داخل الموت.
وعلى وقع «طوفان الأقصى»، قدم جنيد سري الدين ورائدة طه مسرحية «غزال عكا» الذي شكّل «بورتريهاً» لجوانب مختلفة من شخصية الروائي والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، وكان بمثابة مادة توثيقية، تناسقت مع الإطار السياسي والنفسي والاجتماعي الذي لا تزال تشهده المنطقة. سرد العمل فصولاً من حياة كنفاني، وكرّس معنى موحداً حول مصير الإنسان الفلسطيني المقرون بالمواجهة حتى استرجاع الأرض. وفي السياق عينه، أقام «مسرح المدينة» أمسيات دعماً لغزة، إذ قدمت مسرحية «ألاقي زيك فين يا علي» لرائدة طه، كما أقام عرض «مونولوجات غزة» التي كتبها أطفال فلسطينيون أثناء العدوان الصهيوني الأول على القطاع عام 2008، وكان تلبية لنداء «مسرح عشتار» في رام الله.
في المحصلة، يمكن القول إنه رغم فظاعة المشهد وهول الحروب، والكوارث الطبيعية والسياسية، والانهيارات الاقتصادية، استمرت العروض المسرحية في لبنان في عام 2023. لكن ذلك ليس بمقدوره، أن يعطي صورةً وردية للحركة المسرحية برمتها، إذ إن المسرح لا يزال يتطلب وعياً أكبر، ومبادرات أكثر، وجهوداً مضاعفة، ليخرج إلى الجمهور بأساليب ووسائط وأشكال ومضامين، مكثفة وعالية الجودة، ما يحدث أثراً أكبر.

* ترقبوا حصاد الثقافة العربية في ملحق «كلمات» بعد غد السبت