وصلت الفرقاطة الروسية «مارشال شابوشنيكوف» (BPK543) التابعة لأسطول البحر الهادئ الروسي، إلى ميناء مصوع الإريتري نهاية آذار الماضي، في زيارة استمرّت خمسة أيام، وتزامنت مع الذكرى الـ30 لإقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، فيما يمكن ملاحظة تطوّر العلاقات بينهما، منذ تصويت أسمرا ضدّ قرار أممي يدين الحرب الروسية على أوكرانيا (آذار 2022). ولعلّ هذه «الزيارة» تثير خصوصاً تساؤلات حول خيارات موسكو في البحر الأحمر، بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لإيجاد «موطئ قدم» لها في جيبوتي، ثم في السودان.
روسيا وإريتريا: البحث عن الزمن الضائع
حضرت روسيا في شؤون إقليم البحر الأحمر على نحو مباشر منذ نهاية القرن الـ18، عبر تقديم الدعم لعدد من القوى المحلّية المناوئة للدولة العثمانية (المماليك في الأساس) عبر البارون دي ثونوس، قنصل روسيا في القاهرة، والتحالف مع قوى أوروبية، في مقدّمتها النمسا، سعياً إلى ضمان «حرية الملاحة» الأوروبية هناك. ومن هنا، فإنّ الاهتمام الروسي المتزايد بهذا البحر، من بوابة إريتريا هذه المرّة، يكتسب بُعداً تاريخياً واضحاً يُبرز واقع وجود مصالح روسية في الممرّ البحري الأهمّ في العالم.
وفيما واجهت روسيا «فيتو» أميركياً متكرّراً على إقامة قواعد لوجيستية في الإقليم، ولا سيما في جيبوتي، فإنها كثّفت جهودها، في العامَين الأخيرَين، للتحالف مع إريتريا. وتعزَّز هذا المسار بعد زيارة الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، التاريخية إلى موسكو (أيار 2023)، ولقائه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وانتقاده، في خطاب شهير ومطوّل، «أيديولوجيا (الغرب) المجنونة وأفعاله التي لا يمكن كبحها، والتي لم تسع طوال الأعوام الـ30 الماضية إلّا إلى الهيمنة وخلق عالم أحادي القطب». ومن جهة أخرى، فإن التعاون الاقتصادي بين موسكو وأسمرا يظلّ محدوداً جداً، رغم تطوّره النسبي من 9.3 ملايين دولار في عام 2021، إلى 15 مليوناً في تقديرات عامَي 2023 و2024.
وهكذا، اكتسب التطوّر الأخير في العلاقات الثنائية بين البلدين - في جانبه العسكري تحديداً - أهمية دالّة على آفاقها؛ إذ توجّه وفد رفيع المستوى من البحرية الروسية (1 نيسان الجاري)، انطلاقاً من ميناء مصوع، المقابل لميناء جيزان السعودي على السواحل الشرقية للبحر الأحمر وقرب الحدود السعودية - اليمنية مباشرة، يتقدّمه نائب قائد القوات البحرية الروسية، فلاديمير كاساتونوف، لمقابلة وفد عسكري من شخصيات بارزة في القوات البحرية الإريترية، يتقدّمه قائد الجيش فيليبوس ولديوهانس، إضافة إلى الديبلوماسي المخضرم زيميدي تكلي (سفير إريتريا الأسبق لدى إيطاليا). ومن الواضح أن تلك الزيارة، وباعتبارها إحدى الفعاليات الروسية المحتفية بمرور ثلاثة عقود على إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدَين، لم تكن «احتفالية» حصراً، بل جاءت خصوصاً في سياق تعويل موسكو وأسمرا على أهمية الشراكة الاستراتيجية بينهما في السنوات المقبلة.

إريتريا على خط الجنوب العالمي؟
جاء توجّه الفرقاطة «شابوشنيكوف» إلى ميناء مصوع، بعد أقل من أسبوعين من مشاركتها وقطع من البحرية الروسية في مناورات مشتركة مع كلّ من الصين وإيران في خليج عمان استمرّت ليومين، وكشفت وزارة الدفاع الروسية، خلالها، عن تدرّب البحارة الروس على مناورات وتدريبات اتصال مشتركة، وكذلك على استهداف أهداف بحرية وجوية على مدار الساعة. وشكّل توجّه أفورقي إلى البارجة (2 الجاري)، وعقده مناقشات موسّعة مع كاساتونوف، علامة فارقة على اتّساع أفق العلاقات بين البلدين. وارتكزت المناقشات على سبل تعزيز الصلات الثنائية، وفقاً لما تمّ الاتفاق عليه في سان بطرسبرغ في تموز 2023، بما يشمل قطاعات البنية الأساسية والطاقة والتعدين والزراعة والموارد البحرية والدفاع والأمن، ويفتح الباب أمام ترقية العلاقات الاقتصادية والعسكرية والثقافية بين البلدين إلى مستويات غير مسبوقة.
لكن ثمّة عوامل قد تحدّ من التفاؤل إزاء مقاربة أفورقي لروسيا، من بينها جنوح إريتريا منذ استقلالها إلى الانخراط في تحالفات «تكتيكية» مع مجموعة من القوى الإقليمية والدولية - من مثل إسرائيل والإمارات وإيران والصين والسعودية - على نحو مؤثر جداً في ترتيبات الأمن في البحر الأحمر، ولا سيما في فترة الحرب السعودية الأخيرة في اليمن. وتضاف إلى ما تقدّم، محاولات أسمرا - وإجادتها في واقع الأمر - انتهاج سياسات مستقلّة على المدى البعيد (كما في مثال موقف إريتريا من العلاقات الإثيوبية - المصرية، والأزمة في السودان)، وهو ما مكّنها من الحفاظ على توازناتها الإقليمية والدولية وتأمين نظام أفورقي في مواجهة موجات متلاحقة من الضغوط. ولئن كانت تلك العوامل تحجّم (نظرياً) من تصوّرات نزوع إريتريا إلى الاصطفاف خلف روسيا ومحور «الجنوب العالمي» على نحو كامل، فإنها تمثّل - للمفارقة - ورقة مهمّة لدى أسمرا، حال قناعتها بهذا الاصطفاف كخيار مناسب وأخير لحماية النظام من المتغيرات التي سيشهدها إقليم البحر الأحمر والقرن الأفريقي في ما بات يعرف بـ«ما بعد الحرب في غزة».

موسكو وأسمرا ومعضلة الأمن في البحر الأحمر
حرص الوفد الروسي الذي التقى أفورقي على متن الفرقاطة الروسية في مصوع، على تأكيد دعم موسكو لجهود السلم والاستقرار الإقليميَّين في البحر الأحمر (والقرن الأفريقي)، وهو ما لقي ردّاً إيجابيّاً واضحاً من إريتريا ودول جوارها (السودان وإثيوبيا وجيبوتي). وفي ما يؤشر إلى نية موسكو تثبيت وجود بحري قوي على طرق التجارة العالمية الرئيسة، رافقت «شابوشنيكوف» منصة «فارياج Varyag» لإطلاق الصواريخ الموجّهة (تلميحاً ربما إلى الاستعداد لدور هجومي في البحر الأحمر)، وهو ما قد يدلّ أيضاً على قرب توصّل أسمرا وموسكو إلى اتفاق سبق طرحه قبل نحو خمس سنوات، تقوم بمقتضاه الأخيرة بإقامة مركز خدمات لوجيستية بحرية في إريتريا، بهدف واضح وهو رفع قدرات روسيا العسكرية واللوجيستية في القرن الأفريقي.
وفي حين لم تؤكد وسائل الإعلام الإريترية الرسمية إطلاق مناورات روسية - إريترية مشتركة بالتزامن مع الزيارة، فإن وسائل إعلام روسية نقلت عن سفير روسيا في أسمرا، إيجور موزجو، تأكيده توجّه الفرقاطة الروسية إلى مصوع «للمشاركة في تدريبات مع إريتريا للمرة الأولى منذ إطلاق العلاقات الديبلوماسية بين البلدين»، وإن لم تحدّد حجم التدريبات وطبيعتها أو حجم المشاركة الإريترية فيها. على أنه لا يمكن فصل الخطوة الروسية عمّا يمكن ملاحظته من تشكل قوى بحرية موازنة للهيمنة الأميركية، وتغير في الترتيبات الأمنية في البحر الأحمر، فيما سيمثّل انضمام إريتريا إلى كل من الصين وإيران وروسيا تحولاً كبيراً، ولا سيما أن الأولى صاحبة ثالث أطول سواحل بين دول الحوض، وتمتلك عدداً من الجزر الاستراتيجية الممتدّة حتى المياه الإقليمية اليمنية.