لم تكد النتائج النهائية للانتخابات البلدية التركية تَظهر، حتى سُجّلت أولى محاولات الانقضاض عليها من قِبَل المنظومة السياسية - القضائية الحاكمة. وإذ فشلت هذه المحاولة في نهاية المطاف، فإنّ مسرحها كان كالعادة المناطق الكردية، وتحديداً بلدية فان المصنّفة «كبرى»، وفيها، فاز عبد الله زيدان، مرشّح «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الكردي، بنسبة 55% من الأصوات، مقابل 27% حصل عليها مرشّح «حزب العدالة والتنمية»، عبد اللهات أرفاس. وكانت «اللجنة العليا للانتخابات» صادقت على ترشيح زيدان كما على فوزه لاحقاً، غير أن «لجنة انتخابات فان» امتنعت، للمفارقة، عن تسليم شهادة الفوز لزيدان، وسلّمتها بدلاً من ذلك لأفراس، بحجّة أن الأول محكوم عليه قضائياً، عام 2022، بـ«الحقّ الممنوع» الذي يحرمه من ممارسة حقّه في الانتخاب أو الترشّح أو تبوّء مواقع إدارية معيّنة.على أن ما حدث أثار موجة غضب عارمة في المدينة، إذ رأى زيدان القرار «اغتصاباً لحقّ 245 ألف ناخب أيّدوه»، متسائلاً: «لماذا لم يتحرّك القضاء عندما وافقوا على ترشيحي، وعندما صدّقت اللجنة العليا للانتخابات على فوزي؟». وعلى هذه الخلفية، تقدَّم الحزب الكردي باعتراض على القرار القضائي، فيما رآه قادة المعارضة «فخّاً» نُصب لها، فضلاً عن أنه «إنكار لإرادة الشعب». ومن جهته، قال الناطق باسم «العدالة والتنمية»، عمر تشيليك، إنّ «قرار عدم إعطاء زيدان شهادة الفوز وإعطائها لأفراس عائد إلى تقدير لجنة المحافظة، وهناك طرق اعتراض قانونية والقرار النهائي للجنة العليا للانتخابات»، مضيفاً أن «الدعوات إلى انتخابات مبكرة غير منطقية، فالانتخابات حصلت في أيار الماضي ولا تزال هناك أكثر من أربع سنوات للانتخابات المقبلة».
غير أن أحد المؤسّسين المعروفين لـ«حزب العدالة والتنمية»، وزير التربية السابق حسين تشيليك، وصف، من جانبه، ما حصل في فان بأنه «فظيع»، متسائلاً: «إذا لم يكن زيدان يمتلك المؤهلات القانونية للترشّح، فلماذا سمحوا له بذلك أصلاً؟». وبدورها، ذكرت المذيعة المعروفة، إيجه أونير، أنها تلقّت تهديداً بالقتل بسبب دفاعها عن حقّ زيدان في تبوّء البلدية، موضحةً أن شخصاً اتصل بها، وقال لها: «هل تريدين في وقت قريب أن تأتي من أجلك طوروس البيضاء؟»، وطوروس البيضاء إشارة إلى سيارة «رينو - طوروس» الفرنسية التي كان عناصر استخبارات الدولة، في الثمانينيات والتسعينيات، يستخدمونها لاغتيال أو خطف معارضين يساريين أو أكراد.
الموافقة على عضوية السويد في «حلف شمال الأطلسي» لعبت دوراً سلبياً ضد شعبية إردوغان


على أنّ «أول محاولة انقلابية» انتهت إلى الفشل، بعدما حسمت «اللجنة العليا للانتخابات»، مساء الأربعاء، فوز زيدان، وقرّرت بغالبية 7 مقابل 4 أعضاء منحه شهادة الفوز. وكانت لافتة في هذا الإطار أيضاً، تغريدة نائب رئيس «العدالة والتنمية»، حياتي يازجي، والتي اعترض فيها على محاولة حرمان زيدان من الفوز، إذ قال إن «الجنون الذي ظهر في فان أنهته لجنة الانتخابات بقرار صائب». ولكن ذلك الاعتراف لم يَرُق على ما يبدو قيادة الحزب، ليسارع يازجي بعد وقت قصير إلى محو التغريدة. وفي إطار الاعتراضات على النتائج أيضاً، تقدَّم رئيس بلدية هاتاي الخاسر بفارق أقل من نقطة، لطفي صاواش، عن «حزب الشعب الجمهوري»، باعتراض على النتائج ضدّ مرشّح «العدالة والتنمية» الفائز، محمد أون تورك. وفي بتليس، اعترض مرشّح الحزب الكردي الذي خسر بفارق 198 صوتاً فقط، كما حصلت اعتراضات على النتائج من الخاسرين في مدن كبرى، مثل كوتاهية، أوردو، قرقلارالي وغوموش خانه، نتيجة الفارق الضئيل في الأصوات بين الفائزين والخاسرين.
في هذا الوقت، بدأت تداعيات التراجع الكبير في شعبية «الحزب الجيّد» القومي المعارض، والذي تترأسه مرال آقشينير، بالظهور الفوري عبر سلسلة من الاستقالات في صفوفه؛ إذ استقال المرشّح لرئاسة بلدية إسطنبول، نائب رئيس الحزب بوغرا قافونجو، ورئيس الإدارة المحلية في الحزب براق أق براق. وفي وقت قرّر فيه «العدالة والتنمية» تشكيل لجنة للتحقيق في أسباب فشله في الانتخابات البلدية، رأى مدير شركة استطلاع «فاريانس»، رجب صازياكا، أن «الخلل في توزيع الثروة، أفضى إلى حنق فئات واسعة من الشعب، ودفع بجزء منه إلى عدم الذهاب إلى صندوق الاقتراع»، محذراً من أنه «إذا لم تتدارك الحكومة الوضع، فإن ردة فعل الشعب ستكون أكثر راديكالية»، وأن «انهيار الطبقتَين الوسطى والدنيا كان مؤثراً في النتائج وأظهر ترهّل "تحالف الجمهور"»، المرتبط، بتقديره، بالنتائج والإجراءات التي سيتّخذها. أيضاً، يرى الخبير الاقتصادي، خيري قوزان أوغلو، أن العامل الاقتصادي كان حاسماً في خسارة «العدالة والتنمية». وقال: «عشية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أيار الماضي، كان سعر الصرف مستقرّاً عند 20 ليرة، ونسبة الفائدة أقل من 15%، والتضخّم يدور في نسب معقولة. وبالتالي فإنّ أثر "الطناجر الفارغة" لم ينعكس في صناديق الاقتراع. ولكن منذ عشرة أشهر، ارتفعت نسب الفوائد إلى أكثر من 50% وتدهور سعر صرف الليرة من 20 إلى 32 ليرة، فيما ضربت نسبة التضخّم أرقاماً قياسية؛ فكانت معاقبة السلطة بالتصويت ضدّها. أمّا التصويت لمرشّحي حزب الشعب الجمهوري، فلأن الأخير اتبع في البلديات التي يديرها سياسات اجتماعية عادلة».
ومن جانب آخر، حظي تأثير الموقف من غزة على شعبية إردوغان باهتمام عدد من المعلّقين، ومن بينهم محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، والذي قال إن الناخبين في قاعدة «العدالة والتنمية» لم يتجاوبوا مع دعوة الرئيس إلى عدم الالتفات إلى الدعوات «غير الأخلاقية» التي تريد استثمار الحساسية تجاه غزة، مضيفاً أن «جزءاً من القاعدة صوّت ضدّ إردوغان لأن موقف الأخير من غزة كان غير أخلاقي، فيما كان موقف هذه الفئات بالفعل أخلاقياً واقترعت لحزب الرفاه من جديد». ووفقاً لغولر، فإن إردوغان اعترف بعد الانتخابات بـ«(أنّنا) لم نستطع الدفاع عن الانتقادات التي واجهتنا في شأن غزة. ولم ننجح في إقناع هذه الفئات بتغيير موقفها». وذكر أيضاً أن الموافقة على عضوية السويد في «حلف شمال الأطلسي» لعبت دوراً سلبياً ضد شعبية إردوغان، وخصوصاً أن هذا البلد اشتهر بكونه «يَحرق القرآن». وانتهى إلى القول إن «لقاء إردوغان بالرئيس الأميركي، جو بايدن، في البيت الأبيض في الـ9 من أيار المقبل، سيزيد من حراجة موقفه بالنسبة إلى العلاقة مع الأطلسي والأميركيين».