بيار أبي صعب
رجاء بن عمّار تحمل غضبها وتبحر إلى الشرق. الفنانة التونسية تعيد في دمشق تقديم عرضها المونودرامي “هوى وطني” الذي يبدو عملاً استشرافياً. الممثلة المعروفة على نطاق واسع من خلال “مسرح فو” مع المنصف الصايم، تحيد هنا تماماً عن مسارها الفنّي، تضع تجربتها الغنيّة بين قوسين، وتخرج على المسرح كما نخرج عن القاعدة. كتبت نصّها الغزير على شكل مرافعة دراميّة، أو بالأحرى على شكل صرخة احتجاج، وقصيدة ــ مانيفستو. مونولوغ طويل تستعمل فيه ضمير المتكلّم، نوع من مذكّرات متقطّعة تزامنت مع دخول الجيش الأميركي إلى بغداد. إذا هي هنا بصفتها الشخصيّة، فيما كانت تضع هذا النوع من الخطاب عادة على لسان إحدى شخصياتها. لا تخاف بن عمّار المباشرة، ولا الخطاب السياسي الراديكالي عن “البوليس اللي في مخّي”، وعن الزمن الأميركي الذي يفرضه “الكاوبوي” على العالموضمن إطار يوميّات احتلال بغداد، تستعيد ذكريات وحكايات وأغنيات وأخباراً تلفزيونيّة ومشاهد من الحياة اليوميّة، تقدّم تعليقات مريرة ساخرة، تغنّي مقاطع على طريقة موسيقى الـ RAP أمام صالة يغلب عليها الذهول. تطرح أسئلة بشكل مباشر على الجمهور، تبصق في وجه المجتمع ضعفه وجبنه وعجزه وطمأنينته الزائفة. تحكي وتحكي، في مونولوغ تصاعدي عنيف يكتفي من المسرح بالقليل.
رجاء “الذئبة الجريح” تحمل إلى دمشق قنبلة لا عرضاً مسرحياً. لقد تركت المشاغل الجمالية جانباً، تحت وطأة حاجة ملحّة إلى الصراخ... فإذا بنا نعيد اكتشاف مقدراتها التمثيليّة. إنّها في عملها الجديد “حكواتيّة” على طريقة داريو فو. صاحبة “ساكن في حيّ السيّدة” خلعت عنها هذه المرة ثوب “التمثيل” بمعناه المفبرك، المنمّق، لتقول اللحظة الراهنة، في مشاهد مبعثرة. المواطن العادي الذي كان يشتري خبزه بعد العمل، حين سمع أنّ الأميركيين دخلوا بغداد في ساعات قليلة... واستسلم لنوبة جنون. صديقتها المواطنة الصالحة دليلة. المرأة الشريد المتسكّعة التي تحكي لها قصص بيتر بان وعذاباته. ماريل ستريب وجاك بريل وفيروز و“سنرجع يوماً”، عمرو دياب وشاكيرا و“أخاصمك آه”، “سلاّل القلوب” و“حبّة الرمّانة” من قصص طفولتها... ودائماً تلك الدعوة المبطّنة إلى التمرّد... إلى الخروج على النصّ، والتغلّب على هذا “الخوف” الذي يصنع منه الطغاة استقرار الأنظمة السياسية، ويُحكمون به سيطرتهم على العالم.
ما يجمع هذه المشاهد المبعثرة التي لا تعبأ بأي همّ درامي، هو شخصيّة رجاء بن عمّار نفسها، حضورها المؤثّر وقوّة أدائها، أعصابها المشدودة، وديناميّة الحركة (كأنّها فوق حلبة ملاكمة) وصوتها الأليف، وعوالمها الفنيّة والذاتيّة... أصوات المذياع، وأخبار التلفزيون، وأحاسيس الطفولة. تواصل الفنّانة هنا مشاغلها المتعلّقة بالجسد، كنصّ قائم بذاته، كلغة وطاقة ووسيلة تمرّد. تعيد الاعتبار إلى الكلمة العارية، البسيطة، المباشرة، إنّها “شعريّة” من نوع آخر، لعلّها امتداد لعملها السابق “ورا السكّة” الذي قدّمته مع زمرة من العاطلين من العمل والخارجين على القانون والشبان الذين يعيشون على هامش المجتمع. وتنهي العرض بالاعتذار إلى صديقتها الشريد التي استعملت قصتها لتهرب من مشاكلها هي... قبل أن تتوجّه إلينا بسؤال أخير: “شنوّا الوطن؟” (ما هو الوطن؟)، وتنبعث أغنية جون لينون الشهيرة Imagine.
شاهدنا “هوى وطني” في تونس قبل عام. ولعلّ رجاء أعادت النظر أخيراً بنصّها الذي يرافقها منذ سنوات، وهو أساساً مشروع في سيرورة تشكُّل، في ضوء الكارثة اللبنانية الأخيرة، وما سبقها وتلاها في فلسطين.