في مصيفه الجبليّ الهادئ، يختلي رئيس حزب الكتائب السابق كريم بقرادوني بقلمه وبعض الأوراق البيضاء وعشرات الكتب. تارة يكتب، ويقرأ طوراً. صحيح أن تحليلاته تطغى في المرحلة الحالية على معلوماته، إلا أن تجربته السياسية الطويلة وتشعب علاقاته مع مختلف الأفرقاء وعدم ارتهانه لمرجعية تدفع له أجراً آخر الشهر، إضافة إلى سلاسة عباراته وتناغم التفاعل الحيوي بين يديه وعلى ملامح وجهه، تتيح له القيام بتحليل ممتع سمعياً، قريب إلى القلب ومنطقيّ نسبياً. تمرّ الساعات بسرعة في حضرته، وتتضاعف السرعة في حضرة الوزير السابق جان عبيد، حتى يخيل لزائره أن الساعة بضع دقائق فقط. أما زائر السفير عبد الله بو حبيب، فلا يضيع ساعة من وقته، بل يربحها وأكثر؛ إذ لا يمر في الإعلام الأميركي تفصيل عن الشرق الأوسط إلا يحفظه، ليربطه في الوقت المناسب بما يصدر عن مراكز الدراسات الأميركية ومواقف الديبلوماسيين.
وفي الطريق بين منزل بقرادوني في غدراس ومكتبي عبيد وبو حبيب في سن الفيل، يغادر الزائر مقر الرابطة السريانية في الجديدة مذهولاً بشغف رئيسها حبيب افرام بالشعر والأدب وبنوعيّة الكتب النادرة في مكتبته الاستثنائية. فيما لا يمكن مستمع النائب السابق إيلي الفرزلي عدم تتبعه (على الإذاعة أكثر من التلفزيون) والتوقف عند «اختراعاته» الجديدة. وفي ظل تقاعده اللاإرادي، يضطر الصحافي إلى مبادرة الاتصال بالوزير السابق ألبير منصور لمعرفة رأيه في هذه القضية أو تلك. يقرأ هؤلاء السياسيون ويكتبون.
في المقابل آخرون لا يكتفي أغلبهم بعدم القراءة أو الكتابة أو التمتع بالطلاقة اللغوية وتفاعل وجوههم تفاعلاً متناغماً مع كلماتهم، لا يتقنون الاستماع أيضاً، ولا حتى إلى أسئلة محاورهم. فيتحول اللقاء ببعض النواب والسياسيين إلى عقاب حقيقيّ، يبدأ بتصديق النائب أنه هو نفسه زعيمه، إذ يقلده بنبرة الصوت والانفعال، يكرر على مسمع الصحافي مواقف وكليشيهات سمعها نحو ألف مرة، وتنتهي بتحليل خرافي لا معطيات جدية تربط أطرافه بعضها ببعض أو معلومات سرية أو مطالعات أجنبية. ويغدو مستحيلاً إيجاد سؤال إضافي يسهم في إمرار الوقت، ريثما يشرب السياسي فنجان قهوته، فيتاح الاعتذار والمغادرة.
البداية من حزب الكتائب. بعد إرسال الرئيس أمين الجميّل شخصيات من مستوى بقرادوني وإدمون رزق ومنير الحاج إلى منازلهم، غدا نائبه سجعان قزي وجه الصحّارة الكتائبية. تلك التي من عناصرها إيلي ماروني وفادي الهبر، وآخر شمالي هو سامر سعادة، ابن رئيس حزب الكتائب السابق جورج سعادة. أما نديم وابن عمه سامي فلا يفعلان، منذ بلغا طور المراهقة، غير تأكيد نظرية ماركس أن المأساة إذ تعيد إنتاج نفسها في التاريخ تتخذ شكل الملهاة (المهزلة). وفي الماضي كان لهذا الحزب مكتب سياسي صغير تتصارع فيه أفكار موريس الجميّل وجوزف سعادة وجوزف شادر ولويس توتونجي ولويس أبو شرف وصوتا الياس ربابي وإدمون رزق. أما اليوم فيكفي أن تصادق سامي حتى تصبح عضواً في الحزب. ورغم إصرار النائب المتنيّ على إبدال مبدأ التصويت برفع الأيدي في مجلس النواب بالتصويت الإلكتروني، يغيب التصويت عن مكتبه السياسي، حتى برفع الأيدي. أما التيار الوطني الحر، فيمكن الحديث فيه مع العماد ميشال عون عن شتى القضايا من البيئية إلى الإنسانية، مروراً بالعسكرية والسياسية والاقتصادية، وحتى القطاعية. ومع النائب آلان عون في بعض الملفات السياسية، وزميليه إبراهيم كنعان في بعض الملفات التشريعية والمالية وفريد الخازن في بعض التحليلات الاستراتيجية. أما غالبية الآخرين فـ«تنذكر (الأحاديث معهم) ت ما تنعاد». لا يمل هؤلاء من تكرار نظريات التعبئة الشعبية عن «الغول السني الذي يريد أن يأكلنا». فيما لا يخطر ببال معدات البرامج الحوارية، مهما فكرن، شخصية عونية يهضمها المشاهد الصباحيّ، وتقدم له جديداً. ولا شيء يوحي بمقدار الدرك «الثقافي» العوني أكثر من اختيار غابي ليون وزيراً للثقافة: بدّل إعلام معاليه المهتمين، بالمثقفين الذين أتاح للتيار توطيد علاقته بهم، أو مكاشفة زواره بمشروع ثقافي ناهض يعني شيئاً للوطن ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، كان سعيداً أمس بتوجيه وزير الثقافة القبرصي دعوة له لزيارة قبرص. وهنا أيضاً لا يرى العماد ميشال عون حاجة إلى إنشاء مؤسسة حزبية تحتضن تياره من بعده، ما دامت الكنيسة قد نشأت واستمرت بعد المسيح. ورغم ذلك يبدو العونيون والكتائب أفضل ألف مرة من القوات اللبنانية: لا أحد يمكنه هنا إضافة معلومة واحدة أو تحليل منطقي صغير إلى ما يقوله رئيس الحزب سمير جعجع في مؤتمراته الصحافية ومقابلاته. وليس في القوات من يثير في رأس زائره فكرة تشغله يومين أو تفك له قطبة مخفية.
جدياً، الآن: أين يذهب صحافي قرر التعرف إلى نائب يوسّع آفاقه؟ أيزور أنطوان زهرا أم شانت جنجنيان؟ ستريدا جعجع أم إيلي كيروز؟ جوزف معلوف أم طوني بو خاطر؟ يمكن التجوال قليلاً في موقع القوات الإلكتروني لرؤية تحضّر هذا الحزب وخلفيته الثقافية. ولكن لن يشعر بحجم الدرك الفكري الذي بلغته قوات جعجع إلا المطلع على أسماء من كان يفترض بالمجلس الوطني المسيحي أن يضمهم تحت عباءة القوات في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، ومقارنتهم بمَن تضمهم هيئة القوات التنفيذية اليوم.
أما تيار المستقبل، فإلى جانب رئيس كتلته النيابية فؤاد السنيورة، هناك طبعاً النائب نهاد المشنوق الذي تتيح له خبرته الصحافية وخبرته السياسية أن يضيف إلى الشيء الذي يعرفه السنيورة أشياء. أما سائر النواب فيحدّث مَن يلقاهم عنهم دون حرج. وتطول قائمة الضحك هنا: معين المرعبي، محمد الحجار، نقولا غصن، نبيل دو فريج، أمين وهبي، زياد القادري، رياض رحال وآخرون ممّن يربك الحديث وإيّاهم في مصعد مكاتبهم في المجلس النيابي، فكيف الحال في اجتماع طويل tete a tete معهم. قد تبدو الساعة الواحدة عشر ساعات في حضرة النائب روبير غانم، وعشرين في مكتب بدر ونوس، ودهراً كاملاً عند غازي يوسف.
أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فيكاد يمكن القول، لولا تجربتا الوزيرين غازي العريضي ووائل أبو فاعور، إن النائب وليد جنبلاط يمنع القراءة والكتابة وحتى السمع في صفوفه. والحقيقة أن ثقافة جنبلاط تتخذ أبهى أشكالها في اختياره فؤاد السعد ونعمة طعمة وإيلي عون وغيرهم زملاء له في كتلته النيابية.
وصولاً إلى حركة أمل، بعيداً عن الوزير علي حسن خليل، يتسلى الرئيس نبيه بري بتحزير المحيطين به حزازير سياسية يلونها ببعض النكات، فيحمّلها مستمعوه أكثر مما تحتمل بكثير ويطوفون محللين ومبشرين بـ«معلوماتهم» الثمينة. وعلى غرار القوات، من يوسع آفاق زائره أكثر: أيوب حميّد أم عبد اللطيف الزين؟ علي بزي أم علي عسيران؟ غازي زعيتر أم ميشال موسى؟ ومن الحركة إلى حزب الله، الفائدة الوحيدة التي يجنيها من يلتقون غالبية نواب الحزب، هي اكتشاف براعتهم في إعادة تقديم بياناته الرسمية لضيوفهم، على طريقتهم. وإذا زاغ انتباه المتابع عن أحد تقارير قناة المنار، يعيد هؤلاء تسميع النشرة كاملة. و... فقط.
أمّا نوّاب الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث «العربي الاشتراكي»... هل هناك نواب للحزب القومي وحزب البعث!؟
يصبح طبيعياً أن يدفع السأم من أحاديث أحد نواب طرابلس السابقين، مثلاً، إلى مقاطعته بسؤال عن كيفية الوصول إلى منزل نائب المدينة السابق عبد المجيد الرافعي، والانتقال دون تردد إلى منزل الأخير. هناك على الأقل رجل يروي قصصاً من تاريخ شارك في صناعته. ولا يخجل، تماماً كالسفير سيمون كرم في مكتبه خلف العدلية، من القول إن هذا أعرفه، وهذا لا أعرف عنه شيئاً. أو الاتصال بالنائب السابق نجاح واكيم لسؤاله عما يقرأه اليوم، وعمّا سيحصل غداً في رأي الرجل المحذّر مذ وطئت قدما الرئيس رفيق الحريري السراي من وعوده الربيعية. ويغدو الخروج من كتاب الوزير السابق فؤاد بطرس مستحيلاً، مهما توالى الوقت.



عالمهم حدود دوائرهم

المشكلة ليست فقط بتناقص أعداد الشخصيات المطلعة على ما يحصل حولها، بل هي تتجاوز ذلك إلى إحلال ما يشبه المرشح السابق للانتخابات النيابية سركيس سركيس محل ما يشبه النائب السابق نسيب لحود، سواء في الانتخابات النيابية أو داخل الأحزاب. فعند بعض القوى السياسية ثمة مسؤولون ينتظرون جدياً لقاء صحافي لسؤاله عن الأوضاع في المنطقة وعمّا قرأه أو سمعه. هناك نائب منذ أكثر من ثماني سنوات يقول صراحة إنه لا يجد أي ضرورة لاستقبال الملحقين الدبلوماسيين والنقاش معهم في قضايا المنطقة. وآخر يردد: «أنا لا أقرأ الصحافة اللبنانية فكيف أقرأ الأجنبية؟». بينما يرى بعض السياسيين أمثال النواب فريد مكاري وميشال المر وميشال فرعون والنائبين السابقين منصور البون وفريد هيكل الخازن أن المطلوب منهم الانصراف إلى شؤون المواطنين في دوائرهم الانتخابية وشجونهم بغض النظر عمّا يحصل في الشرق الأوسط، فيرفضون الحديث، ولو مجرد الحديث، عمّا هو خارج حدود دوائرهم الانتخابية.