النقاش حول موقف المقاومة في لبنان من الأزمة السورية لا يزال يقف عند نقطة البداية، أي عند الأساس الذي قامت عليه المقاومة. والأمر هنا ليس على طريقة «لسنا في حالة مقاومة ولسنا في حالة سلام»، بل على طريقة أننا في مسار الاستعداد لمواجهة فاصلة، وهي مثل ساعة الموت: آتية لا ريب فيها. وعندما تحين، لن يكتب للمتفرجين حظ الوقوف على التل. ثمة قمة عالية تتسع لمن يقدر على الوصول إليها، وفي مقابلها، أو تحتها، ثمة هاوية سحيقة، تتسع لمن يرغب بالعيش في القاع.
المشكلة في ما يتعلق بسوريا لا تزال على صلة بفلسطين. الأمر ليس تأليفاً ولا اختراعاً، بل هو حقيقة، مثلما هي حقيقة الأرض.
في حالة فلسطين، هناك رؤية تتصل بالمقاومة لإنهاء دولة إسرائيل. أعرف أن عزمي بشارة يعرف شيئاً عمّا سُمّي «لجنة إزالة إسرائيل»، أي تلك الفكرة التي صارت ممكنة بعد تحرير عام 2000. هي فكرة راجت في عقول كثيرين، ويمكن مراجعة رسائل محمود درويش وإدوارد سعيد عن الحلم والمستحيل، حتى ندرك ما الذي فعله تحرير عام 2000. سيأتي يوم تروى فيه حكاية أبو عمار، الذي لمس في مطلع ذلك العام الهزيمة الإسرائيلية المدوية. وما الذي فعله لاحقاً وأدى إلى قرار تصفيته من قبل إسرائيل.
وإذا كانت حسابات الناس متصلة بأمور حقيقية لها علاقة بالحياة الحرة ورفض الاستبداد، فهذا نقاش خاص بأهل سوريا. أي إن فيه قدراً من الخصوصية حين يقرر البعض أن الأولوية المطلقة هي لسوريا نفسها، وعلى حساب قضايا أخرى. وهذا حق لمن يريد من أهل سوريا. لكن المشكلة، هي أن أهل «الحل والعقد» في فلسطين يكررون الأخطاء تلو الأخطاء، من تجربة الأردن إلى تجربة لبنان إلى تجربة سوريا اليوم. لا يريد الفلسطينيون الإقرار بأن مهمتهم ومعركتهم هي حصراً مع إسرائيل. ولا علاقة لهم بكل ما يحصل، إلا من زاوية تأثيرها على معركتهم من أجل التحرير.
في هذه النقطة، تظهر المفارقة في المنطق الذي يسوغه منتقدو المقاومة. أي في مدى ارتباط الموقف من تحرير فلسطين بالموقف مما يجري من حولها. ليس لأحد الحق في مجادلة عزمي بشارة في تصوره أو موقفه أو تقويمه لحالة نظام أو شعب. لكن من حق فلسطين على بشارة، وعلى آخرين، السؤال عن موقع هذا الموقف من قضية تحرير فلسطين.
إذا كان البعض يعتقد أن المقاومة هي عبارة تكتب على حائط أو مجرد بيان، فهذا تبسيط لا يليق بمن لديه عقل. المقاومة تعني برنامجاً متكاملاً، إما أن تنخرط فيه بقوة وتعرف ما عليك القيام به، وإما أن ترفضه على طريقة حازم صاغية الذي يمثل تياراً حقيقياً في عالمنا العربي، وهو يقول إنه لا يريد المقاومة حتى ولو حرّرت فلسطين. ما معناه أنه غير مهتم وغير معنيّ بتحرير فلسطين. لا يقول إنه يعارض تحريرها، لكنه يقول إنها ليست مهمته ولا أولويته. وعلى ما أعلم، يفترض أن يكون عزمي في موقع بعيد عن هذا المنطق.
في حالة سوريا، اليوم، لا أحد منا يحتاج إلى درس في توصيف النظام الحاكم. ولسنا بحاجة إلى من يشرح لنا حقيقة ما يجري، وكأنه أقرب منا إلى المكان. في حالة سوريا، جرت محاولة منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة لاعتبار مطلب إسقاط النظام أصل المشهد، أما أدوات هذه المهمة وآلياتها ونتائجها وكلفتها، فهذه أمور من الهوامش.
في حالة المقاومة، على المرء الذي يرى نفسه متقدماً في صفوفها، أن يبتعد قليلاً إلى الخلف. ومن يرَ أن أميركا وإسرائيل وأوروبا الاستعمارية وتركيا المهووسة بعودة السلطنة، وإمارات القهر والتخلف العربية، كلها تقف إلى جانب من يريد اقتلاع النظام في دمشق، فعليه فقط أن يقلق. وعندها، يمكنه مراجعة حساباته، والبحث في أي موقف يتخذه. فإذا قرر أن يكون أسير صورة غير مكتملة وغير دقيقة، يمكنه أن يبرر معركة تدمير سوريا. وإذا أراد أن تبقى فلسطين في قلب عينيه، فعليه رفع الصوت لرفع اليد التي تمتد على بلد، باسم مساعدة شعبه المظلوم، لكنها تقطع رأسه قبل أن تصل إلى أطراف النظام.
المقاومة في لبنان ليست مع الظلم، ولا هي تبرره، أو تساعد الظالم. هي، بكل بساطة، تقف حيث يجب أن تملي عليها رؤيتها للصراع. ولأن الله لا يحب المغفلين، فإن يوماً قريباً آتياً، سيظهر لمن يغمض عينيه أن هذه المقاومة لا تترك عيون مجاهديها تغفو لحظة واحدة عن الوحش الذي ينهش أرضنا وأهلنا. ومهما سعى البعض من أهل فلسطين إلى نفض يديه من هذه المهمة، تارة باسم القرار المستقل، وأخرى باسم الأولويات، فإن من لم يقرأ التاريخ، عليه العودة إلى نصوص الأولين؛ إذ إن فلسطين حق عام، وليس فيها من حق خاص. وفي بعض الحالات، إن مهمة المقاومة مع من يتخاذل، أن تسوقه إلى الجنة... ولو بسلاسل!