أفضل وقت لممارسة الرياضة في بيروت هو بين الثالثة والسادسة صباحاً! ففي هذه الساعات الثلاث، يسجّل التلوث في مدينة بيروت أدنى معدّلاته، من دون أن يعني ذلك أنّنا في أمان. إذ إنّ هواء بيروت في أفضل حالاته يبقى أكثر تلوثاً من الحد الأقصى المسموح به عالمياً! هذه إحدى النتائج التي عرضها، أمس، أستاذ الهندسة الميكانيكيّة ومدير مختبر بحوث الهواء في «الجامعة الأميركية في بيروت» آلان شحادة، في دراسة أشرف عليها مع أستاذة الكيمياء في الجامعة نجاة صليبا، حول «تأثير توليد الطاقة الكهربائية الموزّعة على تعرض الأسر للمواد المسرطنة المحمولة جواً: عواقب غير مقصودة لتدابير الحدّ من الطاقة الكهربائيّة من جانب العرض في بيئات سيئة التنظيم». أجريت الدراسة ضمن إطار برنامج التغيّر المناخي والبيئة في العالم العربي في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية.
حاولت الدراسة التي أجريت على مدى سنتين، 2010 ــ 2012، أن تقدّم فكرة واضحة عن نوعيّة الهواء الحقيقية في بيروت، كما أنّها تأمل أن تكون نقطة انطلاق في التخفيف من مشكلة الانبعاثات غير الخاضعة للتنظيم والرقابة. ركّزت الدراسة بشكل أساسي على الانبعاثات التي تصدر عن مولّدات الديزل المنتشرة في المناطق اللبنانية والتي تعمل لتغطي غياب التيار الكهربائي عن لبنان لساعات طويلة. أكثر ما يشدّد عليه السكّان لدى نصب مولّد جديد بجانب منازلهم، هو التلوّث السمعي. أي أنّهم عندما لا يسمعون صوته ينسون وجوده. لكنّ المولّدات لا تنسحب من حياتنا بهذه السهولة. إذ إنّها ولو صمتت، يبقى تأثيرها في صحتنا وصحة أطفالنا مدوّياً.
بحسب الدراسة التي قدّمها شحادة، الانبعاثات الناجمة عن محركات الديزل سامة ومسرطنة واستنشاقها يؤدّي إلى أمراض القلب والرئة واضطرابات عصبيّة واضطرابات في النمو لدى الأطفال وكذلك إلى أنواع مختلفة من السرطان. الدراسة التي سمحت للباحثين بقياس مستويات المواد المسرطنة المحمولة جواً من على شرفات 20 منزلاً في منطقة الحمرا فقط، أظهرت نتائج مخيفة. إذ في الحمرا ومناطق بيروت الإدارية الأخرى التي يغيب عنها التيار الكهربائي لثلاث ساعات يومياً فقط، تبيّن أن استخدام المولّد الكهربائي خلال هذه الفترة الزمنيّة فقط يضعنا أمام نسبة 38% من التعرّض اليومي للمواد المسرطنة في المنطقة، الأمر الذي يمثّل زيادة في التعرّض لهذه المواد بنسبة 60% تقريباً عن المستويات الطبيعية في حال عدم وجود المولّدات. هذه النتائج، بطبيعة الحال، من شأنها أن تكون أعلى بكثير في معظم المناطق اللبنانية الأخرى التي يطالها التقنين أكثر من ثلاث ساعات يومياً. تضيف الدراسة إنّ التعرّض الإضافي للمواد المسرطنة من مولدات الديزل مماثل لتدخين بضع سجائر في اليوم، أمّا في المناطق التي تعمل فيها المولّدات لمدة 12 ساعة في اليوم فبإمكان الجرعات المستنشقة من البنزوبيرين (مركبات مسببة للسرطان محمولة جواً) أن تعادل نصف علبة من السجائر في اليوم.
العمل على قياس مستويات المواد المسرطنة المحمولة جواً في وقت عمل مولّدات الديزل كما عند توقّفها عن العمل، أظهر أنّ المواد المسرطنة لا تختفي من الجو مع توقف المولّد عن العمل، إنّما ينخفض معدّلها. لم يرَ شحادة حلاً للموضوع إلا في أن تؤدّي شركة كهرباء لبنان دورها، وتؤمّن للناس كهرباء على مدار الساعة تجعلهم يستغنون من بعدها عن هذه المولّدات. إذ يقول شحادة إنّه حتى الآن ليس هناك شيء يمنع عنّا تنشّق هذه المواد المسرطنة، حتى فلاتر الهواء لم تثبت فعالية كبيرة في هذا المجال. كما أضاف شحادة إنّ بواخر الطاقة التي ستتوقف في الذوق والجيّة ستزيد هذه الانبعاثات على أهالي المنطقتين! في المحصّلة، أظهرت الدراسة أنّ الحالة المتداعية لقطاع الطاقة الكهربائية في لبنان، بالإضافة إلى المشاكل الأخرى، ستؤدي على الأرجح إلى تدهور صحة السكّان على المدى القريب أو البعيد. وهذه المسألة تتطلّب تدابير علاجيّة فوريّة، بدءاً من الحدّ من الانبعاثات غير الخاضعة للتنظيم والرقابة، إلى معالجة النقص المزمن في الطاقة الكهربائية في لبنان.