لا مجال في هذه العجالة لاستعراض خطاب الرئيس السوري بشّار الأسد، ولا نيّة لسبر أغواره، لكن من نافل القول إنّه لم يقُل فيه كلّ ما لديه. ولم يُدل بدلوه في كثير من الأمور، وأبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه، وأكثر ما شدّني في الخطاب هو المصطلح الذي يجب أنْ يدخل التاريخ: نُحاور الأسياد، لا العبيد. وهذه العبارة في رأيي المتواضع جداً، رسالة إلى الزعماء والملوك والأمراء العرب، الذين حوّلوا دولهم إلى قواعد عسكرية واستخباريّة أميركيّة، وجعلوا الوطن العربيّ، من محيطه إلى خليجه مستباحاً أمام قوى الشر، التي لا تألو جهداً في إفقار وتجهيل الناطقين بالضاد، خدمةً لمشاريعها الرأسماليّة، (ألم يَقُل لينين إنّ الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة)، وإمعانًا في إذلال العرب، وتكريس دونيتهم واحتقارهم وازدرائهم، مطبقةً بالحرف الواحد سياسة فرّق تسُد. يخوض العرب حروباً بالوكالة، ويُعلنون عن ثورات بالإنابة، ويتقاتلون بناءً على المخططات الخبيثة التي تُرسم بعناية فائقة في كلّ من واشنطن وتل أبيب، وأحياناً في القارّة العجوز، والأدهى من ذلك، أنّ دول النفط، أو دول ما يُسمى مجلس التعاون الخليجيّ، تسدّد فواتير حروب أميركا وإسرائيل، خفيةً وعلانيةً، في الوقت الذي تُعاني فيه شعوبها فقراً مدقعاً وأميّة متفشيّة تصل نسبتها عند العرب إلى أكثر من خمسين بالمئة. موّلت الحروب الأميركيّة ـــ الإسرائيليّة ضدّ العرب والمسلمين، على حساب الثروات التي نهبتها من شعوبها، ولم نسمع أنّها تجرؤ على التفكير في تمويل المقاومة الفلسطينيّة لشراء الأسلحة والعتاد، ولم نسمع عن فتاوى صادرة من مرجعياتها الدينيّة تُطالب بالجهاد من أجل قضية العرب الأولى، فلسطين. ولم نسمع منها حتى تهديداً واحداً ضدّ إسرائيل، على الرغم من أنّ هناك اتفاقية دفاع مشترك بين الدول العربيّة. الأسد قال للعرب، دون أنْ يُسّميهم: أنتم لستم أسياداً، أنتم عبيد، تأتمرون بأوامر الولايات المتحدّة الأميركيّة.
■ ■ ■


علاوة على ما ذُكر آنفًا، وصلت الوقاحة والصلف ببعض الصحف العربيّة إلى المقارنة والمقاربة بين خطاب الأسد وآخر خطاب للمجرم النازيّ، أدولف هتلر، الذي درج على إلقاء خطاباته في دار الأوبرا. أمّا فضائية «الجزيرة»، فقد استضافت «محللاً» قال في ما قال إنّ الخطاب كان مسجلاً، وإنّ الرئيس السوريّ لا يستطيع الوصول إلى دار الأوبرا في دمشق خوفاً على حياته، الأمر الذي نال إعجاب المذيع، ولكي أكون منصفًا مع نفسي أولاً، ومع القراء أيضاً، أُشدّد على أننّي شاهدت المقطع على شبكة التواصل الاجتماعيّ (فيسبوك)، ذلك لأننّي منذ سنة ونيّف لا أُتابع هذه الفضائيّة. وبما أنّ خطاب الرئيس كان قوياً من جميع النواحي، اختار البعض، من مثقفين وأنصاف مثقفين، ومن صحافيين مأجورين، تعيير بلاد الشام بأنّها لم تُحرر هضبة الجولان العربيّة السوريّة المحتلّة منذ أربعين عاماً. الحقيقة مرّة كالعلقم، لا بلْ أشّد مرارة، لكن لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال «الـتباهي» بهذا الـ«فشل» السوريّ بواسطة إخراجه من السياق العربيّ والإقليميّ والدوليّ، لأنّ هذا الأمر بمثابة تجنٍّ على سوريا، وتهويل قوة العدو الصهيونيّ الذي لا يُقهر.

■ ■ ■


ولست أدري إنْ كان هؤلاء المناكفون يعلمون أو يتجاهلون، لكننّي أعتقد أن الكثيرين منهم يجهلون أنّ من يحتل الجولان هو الولايات المتحدة والغرب عامة في ثوب إسرائيل. ومن يحارب إسرائيل يعلم أنّه يحارب هذه الكتلة المعادية. والقتال بين سوريا الدولة والدولة العبريّة ليس لعباً فردياً بالنار، بقدر ما هو حرب شاملة، ليست مسؤولية سوريا وحدها. ولأنّ تحرير فلسطين مسؤولية كلّ العرب، حاولت مصر وسوريا معاً ذلك عام 1967، لذا فقدت سوريا الجولان، أيْ وهي تحاول استعادة فلسطين. وربما نسأل لماذا لا يتساءل هؤلاء عن دور الأردن لاستعادة الضفة، فقد كانت جزءاً من الأردن؟ ولماذا لا يسألون دولة المئة مليون مصري، فغزة كانت تحت حماية مصر؟ هذا إنْ لم نسأل ما دور جزيرة الوهابيين والسلفيين والإخوان؟ أم أنّ الجولان ليست أرضاً عربيّة بنظرهم؟

■ ■ ■


الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، والتاريخ شاهد على أقوالي، رفض العديد من العروض الأميركيّة والإسرائيليّة لاستعادة الجولان، لكنّه أبى أنْ يقبل الإغراءات التي عُرضت عليه، وواصل تمسكه بمبدأ أنّه يُريد السباحة في بحيرة طبريا. وبالله عليكم، لماذا رفض الأسد هذه الاقتراحات؟ بربكم وبدينكم، لو قبلها، لكان قد أعاد الجولان، لكنّه خسر عروبته ومواقفه المبدئيّة، وكما قال السيّد المسيح: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه. رفْض الأسد كان نابعاً من عقيدته العربيّة الممانعة والمقاومة، ومن أنّ سوريا، لا يُمكنها بأيّ حال من الأحوال أنْ تتحالف مع أميركا وإسرائيل على حساب الحقوق العربيّة، وفي مقدّمتها تحرير فلسطين. علاوة على ذلك، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ الرئيس الأسد الأب، أعلن مراراً وتكراراً أنّه يُعدّ الجيش العربيّ السوريّ للمواجهة المقبلة مع دولة الاحتلال، لعلمه التّام بأنّ التفوق العسكريّ الإسرائيليّ الغربي سيؤدي إلى هزيمة أخرى. لقد جمّد الأسد الأب موضوع استعادة الجولان بالقوّة، لأنّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترّد إلا بالقوة، من أجل بناء منظومة عسكريّة قويّة تكون نداً متكافئاً مع الكيان الذي زرعته الإمبرياليّة في الشرق الأوسط على حساب الشعب الفلسطينيّ. وهذه الندية وهذا التكافؤ كانا من جهد الشعب السوري الذي لا نفط لديه، وهنا نصل إلى بيت القصيد: مَنْ يعتقد أنّ الغرب لا يُريد التدّخل عسكرياً في سوريا لأسباب تتعلّق به، فإنّه على خطأ، فحتى كبار القادة الأمنيين في تل أبيب يُقّرون بأنّ سوريا تملك منظومة صواريخ متطورّة جداً، قادرة على مواجهة العدوان، فضلاً عن أنّها تُعدّ باعتراف وزير الأمن الإسرائيليّ، إيهود باراك، أكبر مخزن للأسلحة الكيماويّة في العالم، وأيضًا دول حلف شمال الأطلسيّ يعلمون أنّهم أوهن وأعجز من أنْ يُطبّقوا النموذج الليبيّ في سوريا. ويبدو أنّ من لا يرون هذه الحقائق يُعانون حب الهزيمة والتمتع بها، لذا يودون لو تُهزم سوريا.

■ ■ ■


نعم، وألف نعم، سوريا لم تُحرّر الجولان، لكنها في المقابل لم تعترف بإسرائيل، وبالتالي يحقّ لنا أنْ نسأل: هل مصر استعادت سيناء في اتفاق العار المسمى «كامب ديفيد»، الجواب لا، فسيناء كانت محتلّة من قبل الجيش الصهيونيّ، وباتت بعد الاتفاق مستباحة من قبل القوات المتعددة الجنسيات، كما أنّها مُنعت من إدخال حتى جنديا مصرياً واحداً إلى سيناء. الاتفاق أخرج مصر من المحور العربيّ، وتحوّلت إلى ذخر استراتيجيّ لدولة الاحتلال، لكنّ المأساة، لا بلْ الكارثة أنّ أنور السادات، بتوقيعه هذا الاتفاق باع فلسطين، وحوّل الفلسطينيين إلى أيتام على موائد اللئام. والمملكة الأردنيّة الهاشميّة، وقعّت اتفاق السلام مع إسرائيل، ولهذا نسأل وبأعلى الصوت: لماذا لم تُطالب المملكة باستعادة الضفة الغربيّة المحتلّة، وهي التي كانت تحت مسؤوليتها حتى عدوان عام 1967؟ أمّا بالنسبة إلى قادة الشعب الفلسطينيّ فحدّث ولا حرج: لقد اعترفت هذه القيادة بالدولة العبريّة مقابل اتفاق هزيل وُقّع عام 1993 وجلب لنا الويلات، ألا وهو اتفاق أوسلو. والاعتراف الفلسطيني بإسرائيل هو كارثة بكلّ المقاييس، وها قد مرّت على هذا الاتفاق الشائن عشرون عاماً، ولم يحصل الشعب الفلسطينيّ على شيء، لا بل بالعكس، ما زال ضحية لمخططات إسرائيل العدوانية في الاستيطان والقتل والمجازر، في ظلّ صمت عربيّ وإسلاميّ مخزٍ. وفي ظلّ دعم غربيّ للاحتلال، لم نسمع عنه لا في التاريخ المعاصر، ولا في التاريخ الحديث، وربّما الأجيال القادمة لن تسمع عنه. والأمر المثير للتقزز أنّ كثيراً من الفلسطينيين الذين ينتقدون سوريا هم متماهون مع تسليم وطنهم للعدو، بل يرسلون بدوافع طائفيّة مسلحين للقتال من فلسطين 1948 إلى سوريا. أليس الأقصى تحت الاحتلال؟

■ ■ ■


كما أنّ من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة تُقيم علاقات علنيّة وخفيّة مع الكيان الإسرائيليّ، وفي مقدّمتها قطر، والمملكة العربيّة السعوديّة التي ألغت قرار منع التطبيع مع الدولة العبريّة عام 2005. وتونس ما بعد ثورة الغنوشيّ ترفض تجريم التطبيع مع تل أبيب، والمغرب، التي يترأس ملكها لجنة الدفاع عن القدس، تُقيم هي الأخرى علاقات مع إسرائيل. وتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسيّ، ما زالت موقّعة على 86 اتفاقية تعاون استراتيجيّ مع العدو الصهيونيّ. أمّا الرئيس المصريّ، محمد مرسي، فقد ارتمى في أحضان أميركا، التي أفهمته أنّ الطريق إلى واشنطن تمُرّ عبر تل أبيب، فأرسل رسالته المشهورة إلى جزّار قانا، رئيس الدولة العبريّة، شمعون بيريز، ونعَتَه فيها بصديقي الحميم. جرت وتجري كلّ هذه الأعمال البهلوانيّة، وسوريا ما زالت متمسكة برفضها الاعتراف بإسرائيل. تدور الأيام وتمُرّ السنين وتبقى سوريا متشبثة بالثوابت العربيّة الأصليّة، التي باعها العرب في أرخص مزاد علنيّ عرفه التاريخ.

■ ■ ■


فلنتخيّل لو أنّ سوريا أقدمت على محاربة إسرائيل لاستعادة الجولان، أولاً لكانت وكنّا قد فقدنا الشام، وفقدت سوريا استراتيجيتها للمحافظة على عاصمتها من الوحش الإسرائيليّ المدعوم من الشيطان الأكبر. وتخيّلوا لو اندلعت الحرب، لكان العرب قد تسابقوا إلى الخيانة، التي وُلدت بعدهم، ولكان الملك السعوديّ سيُطلق صاروخاً من العيار الثقيل يقول فيه إنّ سوريا دخلت في مغامرة غير محسوبة، كما قال عند العدوان الأخير على لبنان في صيف عام 2006. ولمن نسي، فإنّ سوريا ضربت إسرائيل وأوجعتها وأذاقتها المر، عندما وجّهت إليها، مع حزب الله والمقاومة، في حرب لبنان الثانية ضربة قاسية، خلقت ميزاناً جديداً للرعب في المنطقة.
* كاتب من فلسطين 48