حين اتضح أن قطار التسوية الداخلية انطلق في سوريا، في سياق الحفاظ على الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي للبلد في محور القطبية الجديدة والممانعة والمقاومة، أي في لحظة الانتصار السوري بالذات، وجّهت إسرائيل صفعة مذلّة للنظام السوري، أطفأ بريق النصر، وفتح الباب أمام احتمالات تبدأ من التدخل الإسرائيلي المباشر والفظ في إدامة الأزمة السورية، ولا تنتهي بفرض قواعد لعبة جديدة تقوم على قدرة تل أبيب على انتهاك السيادة السورية، وقتما تشاء وكيفما تشاء ومن دون ثمن، أي، عملياً، استعادة قدرة الردع (المفقودة منذ هزيمة 2006) تجاه مركز الحلف المقاوم (سوريا)، وتالياً أطرافه (المقاومة في لبنان وفلسطين).
في السابق، أعني قبل اندلاع الأزمة السورية، كان الصمت السوري إزاء الانتهاكات الإسرائيلية، مفهوماً، وأسبابه واقعية في إطار استراتيجية «الحرب خارج الأسوار»: عدم الانجرار إلى حرب في غير موعدها، وتلافي الاهتزاز الداخلي للنظام واهتزاز علاقاته الإقليمية والدولية، وتوخي سلامة البنية التحتية والمنشآت الاقتصادية والجيش، والحفاظ على ديمومة دعم المقاومات الخ... لكن كل تلك الأسباب سقطت الآن. فالحرب الإمبريالية الرجعية الصهيونية مفروضة فعلاً على سوريا منذ ما يقرب السنتين ـــ ولو أنها تستخدم أداة السلفية الجهادية ـــ ولم يعد النظام يحظى بالإجماع الداخلي. أما البنية التحتية والاقتصادية فهي مدمّرة فعلاً، ولا معنى للحفاظ على آليات دعم المقاومات بينما مركز المقاومة ـــ والجيش السوري ـــ مستهدف في ذاته.
إن ما حققته دمشق، خلال سنتين من الصمود والتضحيات والضحايا، من نصر ميداني تجلّى بالإنجازات العسكرية على الأرض، ومن نصر سياسي بتفكك الجبهة الغربية الخليجية المعادية، وتوصل المعارضة الوطنية (هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة) إلى موقف عقلاني وشجاع للتفاوض نحو حل الأزمة، وتشقق ائتلاف الدوحة بظهور تيار (أحمد معاذ الخطيب ومَن وراءه ومَن معه) أصبح مقتنعاً بأنه لا مخرج من دون التفاوض مع النظام؛ كل ذلك ترنّح حين وقفت دمشق مكتوفة الأيدي في مواجهة العدوان الإسرائيلي فجر الأربعاء الماضي. لماذا؟
أولاً، لأنه شكّل إهانة للجيش العربي السوري، وأظهره كقوة قادرة في الداخل ومشلولة إزاء العدوان الخارجي. واهتزاز صورة الجيش، في هذه اللحظة بالذات، سيعرقل تكوّن الكتلة الحرجة للمصالحة الداخلية؛ وثانياً، لأنه يبعث برسالة إلى القوى المتطرفة المعادية للنظام السوري، على المستويين الداخلي والإقليمي، بأن موعد اليأس لم يحل بعد، وأن التدخل العسكري الإسرائيلي قد أزفّ؛ وثالثاً، لأنه علامة، في أقل التقديرات سوءاً، على سياسة إسرائيلية جديدة إزاء سوريا تضرب عرض الحائط بالستاتيكو الذي كان قائماً قبل الأزمة السورية. وهكذا، فإن التسوية على أساس استراتيجية الممانعة والمقاومة، تثلّمت منذ الآن.
لا أعرف دواعي ابتلاع الضربة الإسرائيلية ودلالاتها لدى القيادة السورية، ولكنها غير مفهومة من وجهة نظر التحليل الاستراتيجي الموضوعي؛ فعلى العكس من النظرة السلطوية الأمنية التي تمنح الأولوية للقتال في الداخل، فإن القتال ضد الإسرائيليين، في هذا التوقيت بالذات، سيضرب الموقع السياسي والمعنوي للجماعات المسلحة، ويستثير الوطنية السورية التي ستبسط جناحيها على كل التشقّقات المذهبية والطائفية والاتنية، وتعيد لحم وحدة المجتمع السوري.
بعدما تم انتهاك الأسوار نفسها، ووصول أدوات الحلف الإمبريالي الرجعي الإسرائيلي، إلى حوافّ دمشق، لم يعد منطق «الحرب خارج الأسوار» والرد على العدوان الإسرائيلي في مكان وزمان آخرين، ذا معنى من كل النواحي، وإنما يعبّر عن الافتقار للخيال السياسي أو حتى، بالنسبة للعقلية الأمنية، تقديس السلطة على حساب الوطن وسيادته. وهو مجرد وهم.
عدم الرد على العدوان الإسرائيلي لا يمكن تبريره بأية حجة: لماذا لم تتحرّك وسائل الدفاع الجوي ضد الطائرات الإسرائيلية المعتدية؟ ولماذا لم يكن هناك رد فوري؟ بل ولماذا جاء البيان السوري صحفياً وخلوّاً، أقله، من التهديد بالرد في حال تكرار العدوان؟
في الوقت الذي لم تبق مؤسسة في سوريا غير مثلمة في شرعيتها وضرورتها، حافظ الجيش العربي السوري على موقعه السياسي والمعنوي، الضروري لإعادة بناء الدولة والمكانة. ولعل إلحاق الإهانة بهذه المؤسسة أن يكون أسوأ نتائج الانحناء أمام العدوان الإسرائيلي.
سوريا انتصرت على الأزمة، وانفتحت أبواب الحل والتغيير وإعادة البناء. وهو انتصار ما كان يمكن أن يتركه الإسرائيليون ليمرّ، ولن يسكتوا على تبلوره، إلا بالمقاومة السورية. وهذه جاء زمانها. وبها، وحدها، يمكن إعادة بناء وحدة المجتمع والدولة في البلد الحبيب.