محاطةً بزميل لا يتوانى عن متابعة أفلام البورنو الكوميدية على كومبيوتره في المكتب، وبآخر يكثر التفوّه بعبارات من «الزنّار ونازل»، لم تستطع دينا (31 سنة، عاملة في مجال صناعة الإعلان) الصمود! ولكنّ شكواها التي لاقت آذاناً صاغية، وعولجت بنقلها إلى زاوية أكثر هدوءاً، لم تكن الوحيدة ضمن منظومة يسيطر على مفاصلها الذكور. بعض هؤلاء يغالي، حسبها، في تواصله الحسّي مع عدد من الموظفات من خلال تمسيد شعورهنّ وتقبيلهنّ وضمّهنّ والشدّ على خدودهنّ وتدليك رقابهنّ وأكتافهنّ وإحاطة خصورهنّ بيده... ويُقابل بالصمت غالباً، لـ«حفظ الرأس» أولاً، والبعد عن البلبلة ثانياً.
طلبت دينا ترقية بعد سنوات من «الكدّ». ردّ عليها مديرها بالآتي: «نتفاوض في هذا الشأن، شرط نسيانك أمر الإنجاب ثانيةً». هذا المدير هاله أن يضمّ فريق عمله زوجاً من الحوامل، فعبّر عن انزعاجه متهكّماً: «من الآن فصاعداً، لن نوظّف الإناث!». تؤكد دينا أنّ «إثبات الاحتراف يحتّم الانغماس في العمل وقبول كلّ تحدياته، وحتى القيام بنشاطات لا تتصل بجوهره، إلا أنّ ذلك لا يعني ضرورة التقدّم في الوظيفة. في المقابل، قد تكون الترقية أو العلاوة تحصيل حاصل لزميل، ويتجلّى هذا الأمر بصورة فاقعة حين تكون العاملة أمّاً، فهي لا تؤخذ على محمل الجد رغم الجهد الذي تبذله».
صريعات طموحهنّ، أو أسيرات رواتبهنّ، تواجه عاملات كثيرات ممارسات ذكورية لا تقتصر على التحرّش بهن، بل تمتدّ إلى تفاصيل مهنتهنّ، ما يجعلهنّ موضع استغلال في صورة تختصر بالآتي: «بدّك تشتغلي تلقّي!». وتعبّر عن هذا «التلقّي» لائحة تضمّ في ما تضمّه خضوعهنّ لمن يرى في وجودهنّ منافسة له، أو تحدياً لرجولته. وبين زميل ينصح زميلته بأن وجودها مع رضيعها أجدى لها، وآخر يقوّم «كفاءاتها» تبعاً لمواصفاتها الخارجيّة، وثالث يردّ على انفعالها بعبارة «الظاهر هرموناتك عم تلعب»... تتعدّد المواقف التي تبيّن «الذكورة» في صورها العمليّة.
وفي هذا الإطار، تروي علياء (35 سنة) أن مديرها ذكوري النزعة، يتعامل مع نوعين من العاملات: نوع عملي، يرمي المهمات عليه حتى يصحّ وصف من تندرج تحته بـ«حمارة شغل»، ونوع لعوب يقبل بتحرّشه لغاية الوصول». ولكنّها تستدرك قائلةً «هناك نساء يوحين بأنهنّ لعوبات وهنّ لسن كذلك حقيقة، لكن المدير يصرف هذا الإيحاء لصالحه، وخصوصاً أن الذكورة تتغذّى باللباس الذي يكشف أكثر ممّا يستر ومسح الجوخ». وبعد أن تثير أمر راتبها الأدنى مقارنةً براتب زميلها الذي يقوم بالعمل نفسه، تلفت إلى أن الطبع السيئ للرجل ليس موضع استهجان في العمل، إلا أنّه عرضة للتأويل في حال المرأة: هي كذا لأنها تأخرت في سنّ الزواج أو تعاني خلافات مع زوجها أو حتى «جايتها»!
ولا تتمحور هذه المعاناة حول رئيس ذكر ومرؤوسة أنثى، بل هي قد تشمل من نجحن في تحقيق مراتب متقدّمة في الوظيفة، كما في حال غوى (30 سنة، عاملة في مجال الميديا) التي توضح أن تعيينها مسؤولة عن فريق عمل مؤلف من 17 موظّفاً، جلّهم من الذكور، لم يمرّ على خير! «ملاحظاتي تغيظ الشباب خصوصاً، حتى إنّ أحدهم واجهني مرّة بعدما طلبت منه تحريك جسمه بطريقة محدّدة أمام الكاميرا، بالقول: هذه إهانة! قولي ملاحظتك لزميلي ليردّدها على مسامعي، المهم ما تجي منك مباشرة». طبعاً، لم تغب تعليقاتهم «إنو ليش مرا بدها تكون مسؤولة عنّا؟».
ولدى البحث عن مسارب الذكورة في قطاع المحاماة، تردّدت شكاوى عدة، أبرزها فرز الإناث للمهمات المكتبيّة، مقابل خروج الذكور إلى فضاء أرحب في الأمكنة التي يعمل فيها الجنسان.

تجليّات الذكورة الإقصائية

تشرح الأستاذة في علم النفس الاجتماعي والباحثة د. عزة شرارة بيضون أنّه «في الاستخدام العام واليومي، يأخذ مفهوم الذكورة معاني مختلفة بحسب السياق، ولا يختلف الوضع كثيراً في الخطاب العلمي حول الذكورة. ويعمد من يرغب في البحث في هذا الموضوع إلى تعريف ما يُقصد بـ«الذكورة». لذا، نحن نتكلّم عن «ذكورات» لا عن «الذكورة». وممّا تقدّم، يبرز المعنى الاستبعادي للذكورة، أي تلك التي يتمّ تعريفها بأنها «عكس الأنوثة»، حيث يدرك الذكر نفسه بأنه ليس أنثى. وهو تعريف طفولي ينظر إلى العالم على أنه قائم على ثنائيات متضادة، وأن أحد طرفي كل ثنائية هو الأعلى قيمة: فكما أن الذكورة هي عكس الأنوثة، فإن الذكورة هي أعلى شأناً من الأنوثة. وكذلك هي الفضاءات: المجال العام هو بالنسبة الى هؤلاء مجال الرجل بامتياز، وهو عكس المجال الخاص، مجال المرأة حصراً. واستطراداً، فإن المجال العام هو أهم من المجال الخاص». تضيف: «هكذا، فإن وجود الإناث (الأقل شأناً) في المجالات العامة (مكان العمل مثلاً)، يثير لدى بعض الرجال، الذين لم يتخلصوا من التمثّلات الطفولية لذكورتهم الإقصائية، قلقاً، لأنه يتحدّى هويتهم الجندرية _ أي يقينهم بأنهم ذكور. فإذا كانت ذكورة هؤلاء قد جرى تمثلها على أنها أعلى شأناً من الأنوثة، وبأن المجال العام هو مجالها حصراً، فإن عدائية هؤلاء الرجال تجاه النساء بمثابة دفاع عن ذلك المجال. هذه العدائية تعمل على خفض القلق الذي أثاره التنافر المعرفي (أي التناقض بين معتقدهم بأن المرأة لا تصلح للمجال العام وبأنها أقل شاناً منهم، وبين واقع المرأة العاملة في المهنة نفسها التي يعملون هم بها). فوجود المرأة فيه بمثابة انتهاك لواحد من شروط علوّ شأنهم القائم على استبعاد المرأة منه. العدائية تجاه النساء، في هذا السياق، هي بمثابة إعادة الاعتبار لذكورتهم. فحين تعمل المرأة في مهنة شبيهة بمهنة الرجل، وفي مكان العمل نفسه، تكون بنظر الذكورة الاستبعادية/ الإقصائية قد تجاوزت أدوارها وتعدّت على أدوار الرجل، لتنفي بذلك دونيتها المفترضة، ولتذكّر الرجل/ الذكر الطفولي (الذي يتمثّل ذكورته بأنها عكس الأنوثة الخفيضة والأقلّ شأناً) بأنه ليس ذا شأن عال. وما التحرّش الجنسي والإساءة التي تتعرّض لها المرأة في مكان العمل من قبل بعض الرجال إلا محاولة منهم لإعادة المرأة إلى الحجم الذي يفترضه هؤلاء لها: أي باختزالها إلى كينونتها الطبيعية وإلى بيولوجيتها... إلى كونها أنثى لصيقة بأدوارها الإنجابية الطبيعية (الأنثى الجاذبة واحد منها)، لا إلى كائن ثقافي اجتماعي متعدد الأوجه ومعقّد الاهتمامات. لذا، فإن عملها ومهاراتها وقدراتها أمور عابرة لا تمس جوهر طبيعتها».
وتبدو مسألة الإساءة إلى النساء في مجال العمل، حسبها، مرتبطة بذكورية الرجل المسيء حصراً؛ لكن لا يخفى أن المعتقدات التقليدية حول الذكورة والتي يجري تعزيزها في الأديان وفي قوانين التمييز ضد المرأة، تصف واقعاً ذكورة إقصائية بدرجة غير قليلة.



عن «أبطال» التحرّش وأشكاله

توضح أستاذة علم النفس العيادي والمعالجة النفسية د. مي جبران أن «التحرّش في أماكن العمل يتمّ غالباً من قبل الذكر نحو الأنثى، وأن قواعده التكرار وعدم موافقة الطرف الآخر. وهو يتمحور حول من يستغل مقامه لجذب من هي أدنى منه في السلّم الوظيفي، ولكنّه يروج أيضاً بين زملاء يشغلون الوظيفة عينها، علماً بأنّ هامش الرفض أكبر في الحال الثانية بعكس الأولى التي ترضخ لها كثيرات لحفظ رواتبهن». وإذ تفيد بأن أبطال التحرّش في العمل هم ذكور متزوجون في معظم الأحيان، تعدّد أنواعه بـ:الكلام (الغزل أو الشتيمة) والنظرات وإشغال المرأة بصورة تبقيها قرب المتحرّش والتقرّب الجسدي واللمس (يشمل أيضاً نوعاً سلبياً كالدفع والقرص والصفق)، وصولاً إلى الاغتصاب. تتحدّث عن حالات لاحظتها في مجال بحثها عن التحرش في أماكن العمل، الذي ينشر قريباً، تقوم على تقديم الهدايا بدون مبرّر.
ومن تبعات التحرّش النفسية على الإناث: اضطراب المزاج والإحباط والقلق والهجاس (الخوف من الجنس) حين يبلغ الأمر مبلغ اغتصاب صغيرات السن.