أسبوع كامل مرّ على إضراب «هيئة التنسيق النقابية» من دون أن يرفّ جفن الحكومة. قد يبدو المشهد سوريالياً في حكومة يقودها الرئيس نجيب ميقاتي، الذي استمرّ في «مناورة السلسلة» لأكثر من 5 أشهر، وأغرقها بلقاءات حوارية مع الهيئات وهيئة التنسيق وأمطرها باللجان الوزارية والدراسات... ويبقى العرض متواصلاً مع تكرار عبارة واحدة عن الحلّ: «قريباً».
لا يعلّق وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس على أي سؤال يتعلق بإضراب هيئة التنسيق للمطالبة بإحالة سلسلة الرتب والرواتب على مجلس النواب، إلا بكلمة واحدة: «قريباً». يرفض نحاس تحديد المدّة الزمنية الافتراضية لهذه الـ«قريباً»، ويحاجج متهمي الحكومة بجرم المماطلة، بالإشارة إلى أنهم «لا يعلمون شيئاً عما يحصل؛ ففي الاقتصاد هناك دائماً من يدفع الثمن، فلا يأتي شيء من الفراغ». هذه الاتهامات تحفّز نحاس على أن يبحث بين أوراقه عن أرقام البنك الدولي والاسكوا. «تنفيذ السلسلة ستكون له تداعيات كبيرة تختلف بحسب مصادر التمويل؛ إذ إن الدراسات التي نفذها البنك الدولي والاسكوا عن تأثيرات تنفيذ سلسلة الرتب والرواتب تجزم بأن البطالة ستزيد، وأن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض. الاسكوا تؤكد أن معدل البطالة العام سيرتفع من 8% إلى 16.3%، وأن الاستثمارات ستتأثر سلباً وسينخفض الناتج المحلي الإجمالي أيضاً...».
يروي نحاس هذه الوقائع ليشير إلى دقّة المرحلة، ويستعمل هذه الأرقام مبرّراً لتأخر إحالة ملف السلسلة وتمويلها على مجلس النواب، نظراً إلى «ضرورة التخفيف من هذه الآثار على الاقتصاد من خلال إيجاد طرق تمويل لا تضرب الإنتاج ولا تضرّ بالوضع النقدي».
ليس هناك كلام أوضح من ذلك. فوفق نحاس «من خلال تقسيط السلسلة، سنخفّف من الانعكاسات النقديّة والتضخميّة. ومن خلال زيادة عامل الاستثمار (بيع الأمتار الوهمية) لن نحمّل الاقتصاد أعباءً لا يمكنه تحمّلها». عملياً، إن هذا الحلّ يعني أن الحكومة لن تفرض ضرائب على أصحاب الفوائد المصرفية ولا الأرباح العقارية فتحقق مطالب «الهيئات الاقتصادية» من خلال مشروع طابق «ميقاتي».
في هذه الحال، هل كان تأخُّر إقرار مشروع زيادة عامل الاستثمار وراء إلغاء جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقرّرة الاثنين الماضي والتي خصصها ميقاتي لـ«إحالة السلسلة على مجلس النواب»؟ الإجابة وفق المعلومات المتقاطعة تؤكد أن المصارف هي سبب الإلغاء. فما حصل خلال الفترة الماضية هو أن الرئيس ميقاتي حصر لقاءاته مع الهيئات الاقتصادية بجمعية مصارف لبنان لأكثر من اعتبار؛ فهذه الجمعية هي المعنية بالنسبة إلى تمويل الدولة، كذلك فإنها تضمّ غالبية الأطراف المعنية بالحوار، ولا تعدّ معادية لميقاتي بمقدار «المعاداة السياسية» التي يبديها رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت محمد شقير. وقد تبلّغ ميقاتي قبل ساعات من بدء جلسة مجلس الوزراء «الملغاة»، من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رسالة مفادها «ضرورة الاستماع إلى ما لدى المصارف لتقوله في شأن السلسلة». المصارف كانت تملك «ورقة مخفيّة»، فهي تبلّغت منذ أكثر من 30 يوماً، من موفدي وكالات التصنيف الدولية، رسالة مفادها أن «تصنيف لبنان السيادي سيخفض خلال 10 أيام من إقرار السلسلة؛ لأن الوكالات غير مقتنعة بطرق التمويل ولا بجديّتها، علماً بأنه إذا كانت تقديرات النمو الاقتصادي تشير إلى 2% في 2013، فهذا يعني أن حجم النمو لن يزيد على 860 مليون دولار، وبالتالي فمن أين سيموّل مبلغ الـ1.5 مليار دولار للسلسلة؟»، على ما يؤكد مصرفي مطلع. وفي لقاءات ميقاتي ــ المصارف التي سبقت الجلسة الملغاة، وتلتها، كانت المصارف قد أبلغت الحكومة أنه «لا يمكن زيادة التمويل للدولة؛ لأن متطلبات بازل 3 تفرض على المصارف ذلك»، على ما يقول نحاس.
هكذا أدت المصارف ورقتها الرابحة، فيما أبقى ميقاتي وفريقه «زيادة عامل الاستثمار» مشروعها الوحيد للتمويل. وفي رأي نحاس، إن هذا المشروع «هو مصدر التمويل الوحيد، علماً بأن اللجنة الوزارية حسمت أمرها على اعتماد هذا المصدر للتمويل وعلى التقسيط».
غير أن وزيراً ثانياً، هو عضو في اللجنة الوزارية، أكّد لـ«الأخبار» أن كلام نحاس غير دقيق؛ لأن اللجنة لا تزال تنتظر ما سيرسله الوزير غازي العريضي عن مشروع زيادة عامل الاستثمار، «لكننا ننتظر مشاريع أخرى نريد تفعيلها وإقرارها مثل مشروع الضريبة على الربح العقاري والبنود الضريبية الأخرى». بعض المشاريع هي عبارة عن خيارات غير واقعية في نظر نحاس؛ فعلى سبيل المثال إن «مشروع الأملاك البحرية لا يزال يرقد في مجلس النواب منذ 5 سنوات. نحن في بلد محاصصة سياسية ولا يمكن أن نقترح بنوداً غير مضمونة التنفيذ، وإلا فسيرتفع العجز في الموازنة، وهذا العجز لا يوجد من يموّله».
ما يحصل ليس ارتجالاً، بل هو نمط يتّبعه ميقاتي وحكومته مجتمعين. فما حصل في ملف تمويل سلسلة الرتب والرواتب لم يكن أمراً مخططاً له، بل كان أمراً مدروساً إلى حدّ التخطيط. فالإدارة الميقاتية لملف السلسلة تمكنت، حتى الآن، من المراوغة في انتظار مخرج مناسب لملف السلسلة ... أبرز توصيف هو لوزير الاقتصاد: «ديناميكية التأقلم، وتقطيع المرحلة بعقلنة وأخذ الإجراءات التي تناسب الأوضاع المالية».