… وفي اليوم التاسع زحفوا من البربير إلى السرايا الحكوميّة. آلاف المعلمين والموظّفين في القطاع العام تجمّعوا أمس في ساحة رياض الصلح للمطالبة بحقوقهم والدفاع عن مكاسبهم. هتفوا بصوت واحد وبحناجر تغصّ بلقمة العيش: «لا تقسيط ولا تأجيل». لم يجمعهم في هذه الساحة سوى حقوقهم التي «تعلكها» الحكومة منذ أكثر من 5 أشهر، حتى أطلق عليهم عريف التظاهرة: «أصحاب الجباه السمراء والمناضلون الذين أتوا من كل المناطق ...». هؤلاء أنفسهم يعدّون العدّة لتنفيذ إضراب عام يشلّ كل الحركة في لبنان... فلتسمع الحكومة!
إنها درب أصحاب الجباه السمراء إذاً. الأساتذة والمعلّمون وموظفو الإدارات العامة، وحتى الطلاب. للمرّة الأولى تجمعهم كلمة لا خلفية سياسية لها. تناثروا على مساحات الزفت بين البربير والبسطة لبدء رحلتهم نحو ساحة رياض الصلح حيث يستعدون لمواجهة زعماء السرايا الحكومية.
هذه الكتلة الضخمة التي تراوحت التقديرات بشأن عددها بين عشرين وثلاثين ألفاً، اندفعت تحت شمس شباط العارية، لا استناداً إلى خطاب زعيم ولا بإيعاز من حزب، للمطالبة بأمر واحد: إحالة مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب على مجلس النواب. طيلة أشهر لم يكلّوا عن ترداد مطلب واحد، ولم تضع بوصلتهم. أتوا من كل الجنوب وصولاً إلى شبعا وحاصبيا، ومن البقاع، ومن الشمال، ومن الجبل، وحتماً من بيروت. استمرّوا بالهتاف غير آبهين بأبواب السرايا ولا بشبابيكها المقفلة، لأنه مهما كانت درجة عزل جدران الحكومة فقد بلغت أصواتهم آذان الجميع. ورغم أن ساكن السرايا تعمّد خلال الأيام الماضية إظهار لامبالاة مبالغ فيها تجاه الإضراب ومفاعيله، اضطر إلى الخروج عن صمته مرّتين: في الأولى عندما التقى رئيس الهيئات الاقتصادية عدنان القصار، وفي الثانية عندما أطلق موقفاً واضحاً وصادماً من التظاهرة وإضراب هيئة التنسيق قبل انعقاد مجلس الوزراء.
وبحسب معلومات تداولها أعضاء هيئة التنسيق النقابية، فإن القصار نقل لميقاتي «شروط» الهيئات الاقتصادية في مقابل قبولها بـ«سلسلة الرتب والرواتب ». وقد اتفق الرجلان على أن «للمتظاهرين حقوقاً لا يمكن إنكارها، لكن واقع الحال أنه ليس لدى الدولة القدرة على سدادها». وهذا الموقف يتزامن مع ما خلصت إليه الهيئات الاقتصادية في اجتماعها أول من أمس، عندما حدّدت 3 شروط أساسية للموافقة على سلسلة الرتب والرواتب، وفق ما يؤكد نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان نبيل فهد:
ــ على الحكومة إجراء إصلاحات أساسية في القطاع العام، منها ربط الرواتب في القطاع العام بالإنتاجية والأداء، فضلاً عن ضرورة إعادة هيكلة نظام التقاعد (ويشير بعض رجال الأعمال إلى أن أبرز الشروط التي يدفع في اتجاهها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو إجراء إصلاح في قطاع الكهرباء الذي يرهق الخزينة بأكثر من 2.5 مليار دولار سنوياً تدفع بالعملات الأجنبية).
ــ على الحكومة أن تكشف عن رقم واحد بالنسبة إلى كلفة سلسلة الرتب والرواتب، وتقدير الكلفة على المدى المتوسط، أي خلال السنوات الأربع المقبلة، ربطاً بزيادة عدد الموظفين في القطاع العام وبزيادة عدد المتقاعدين.
ــ على الحكومة تحديد آليات التمويل الجديّة للسلسلة واستدامة هذا التمويل من مصادر غير ضريبية «لأن كل الزيادات الضريبية غير مقبولة لتمويل السلسلة، وبالتالي يجب أن نعرف إذا كانت الإيرادات ثابتة أو غير ثابتة».
إذاً، هل يذهب النقاش أو الحل المفترض أبعد من هذه البنود الثلاثة؟ لا توحي المؤشرات الأخيرة أن هذا الأمر متاح. فالموقف المتصلّب الذي كشف عنه ميقاتي أمس، قبل جلسة مجلس الوزراء، يؤكد أنه عازم على مزيد من المماطلة، إذ وصف تحرّك الأساتذة والمعلمين وموظفي الإدارة العامة بأنه «تحرك مجاني لا يوصل إلى أي نتيجة».
وما يعزّز وجود هذه البنود كشروط تضعها الحكومة، أو على الأقل رئيس الحكومة وفريقه، أنه سبق لوزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس أن قال لـ«الأخبار» إن كلفة المتقاعدين ستتضاعف خلال 10 سنوات، وإن من الصحيح أن كلفة السلسلة وأرقامها ليست نهائية بعد.
في المقابل، لا يبدو كل هذا الكلام عن الإصلاحات أكثر من زوبعة في فنجان المماطلة التي يقودها ميقاتي، ربما كسباً للمزيد من الوقت. فبحسب مصادر مطلعة، إن إعادة هيكلة نظام التقاعد، بما فيها تقليص المستفيدين من المعاش التقاعدي وزيادة المحسومات التقاعدية، ستوفّر إيرادات للخزينة العامة بقيمة 200 مليار ليرة، أما زيادة عامل الاستثمار المعروف بـ«طابق الميقاتي » فإن حدّه الأقصى 900 مليار ليرة، وبالتالي فإن 1.1 مليار ليرة تأمّنت، «فلماذا لم يُحل ميقاتي المشروع على مجلس النواب؟».
في الواقع لا أحد لديه إجابة واضحة عن أسباب مماطلة ميقاتي في إحالة السلسلة على مجلس النواب، لكن الغريب أن وزير الأشغال العامة غازي العريضي لم يحل بعد مشروع «زيادة عامل الاستثمار» أو «مشروع قانون الأبنية الخضراء»، كما سمّاه المجلس الأعلى للتنظيم المدني، على الأمانة العامة لمجلس الوزراء. فقد مضى على إقرار المجلس الأعلى هذا المشروع نحو 10 أيام، ويمكن أن تجري دراسة أرقامه التقديرية خلال أيام معدودة، فلماذا لم يرسل العريضي هذا المشروع إلى الحكومة لإقراره؟ بعض الخبيثين يؤكدون أن الأخير يتقصّد الاستمهال في هذا المشروع لإبقاء الذريعة جاهزة بين يدي ميقاتي.
على الضفّة الموازية، تقول أوساط حكومية إن هناك هجوماً واسعاً على الحكومة يجعلها مربكة بصورة كبيرة! فالصناديق العربية والأجنبية أوقفت كل التمويل للدولة اللبنانية بالتزامن مع هجوم وكالات التصنيف الدولية على التنصيف السيادي للبناني ومع التحذيرات التي تطلقها المؤسسات الاقتصادية الكبرى في العالم وتخويفها من إقرار سلسلة الرتب والرواتب، فيما هناك ضغط سيولة هائل على الخزينة العامة... فكل هذه العوامل قد تجعل من استهداف حكومة ميقاتي أمراً ضرورياً لمنعها من تقديم أي مبادرات تجاه أي شريحة في فترة ما قبل الانتخابات.
وإذا كانت مجريات يوم أمس بين زحف المتظاهرين، والاتصالات الرسمية والخاصة بموضوع السلسلة، تتراوح بين الإضراب العام الشامل وإصرار ميقاتي على اللامبالاة، فهل يمكن التأسيس على مجريات أول من أمس؟ فحتى الآن لم يبرز أي موقف مبالٍ من الحكومة ووزرائها تجاه إضراب هيئة التنسيق، سوى لقاءين بين قيادة هيئة التنسيق مع وزيري الصحة العامة علي حسن خليل والطاقة جبران باسيل. وزير الطاقة قال كلاماً عاماً عن السلسلة وموقف تكتل التغيير والإصلاح منها وتأييدها... لكنه لم يقل إلى أي مدى سيذهب التكتل في هذا التأييد. أما وزير الصحة فقد تعهد للقياديين بأنه سيتحدث مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي من أجل عقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء، مشدداً على أنه سيعمل على متابعة هذا الموضوع، وصولاً إلى عقد جلسات متتالية حتى إحالة السلسلة على مجلس النواب.
في الواقع، إن هيئة التنسيق النقابية لا تزال تمسك بمفاتيح كثيرة تعوّل عليها بعيداً من المواقف السياسية. فهي عادت إلى فتح أبواب مبنى الـTVA حرصاً على إيرادات الخزينة وسيولتها لا على تهديدات أصحاب العمل في لبنان، لكنه يبقى أمراً مشروعاً في مثل هذه التحرّكات، وهو أمر تحتفظ هيئة التنسيق بحقها في تنفيذه ساعة الضرورة.