هنا العدلية. هنا يعتقد معظم زائري المكان لأول مرة أنهم يجولون في إحدى القلاع الأثرية. وحدها الوجوه المتحركة تُشعرك بوجود حياة في المكان. حتى هذه الوجوه، بفعل الزمن، أصبحت تشبه جدران القصر. هذا المكان يسمّى «قصر العدل». جدرانه باهتة، أرضيته متكلسة، أسقفه «مشلّعة» ودهاليزه مظلمة لا تغادرها رائحة العفن والرطوبة. في هذا القصر يقيم قضاة ومحامون ومتقاضون. وإليه يُساق نزلاء السجون. المؤمنون بنظرية الطاقة السلبية، عليهم، سريعاً، زيارة العدلية في بيروت. سيجدونه المكان المناسب لواقعية نظريتهم. والأمر لا يقتصر فقط على هيكل القصر وأهليته للعمل. فالطبقات الخمس التي يتألف منها، فيها الكثير من الرفوف المليئة بملفات المواطنين. لا عهد للعدليين، هنا، بعالم المكننة والكومبيوتر، باستثناء قلّة ما زالوا يجاهدون في تعلم الاستفادة من التكنولوجيا.

أحد المشاغبين استطاع أن يخرج ملف أحد المواطنين المتقاضين. حمله معه إلى المنزل وأعاده في اليوم التالي. كان كلّ هدفه أن يتأكد من أنه يستطيع فعل ذلك من دون أن يعترضه أحد. ما فعله هذا المشاغب بإمكان أي كان أن يفعله اليوم أيضاً. إذ لا أقفال على خزانات الملفات. يكفي أن تمد يدك لتطال أي ملف تريده. لن تجد حارساً يمنعك أو يصرخ بك. يمكنك أن تتلف أي قضية وكأن شيئاً لم يحصل.
في أحد الممرات، المخيفة، في العدلية، تطالعك كومة من الملفات القديمة. مكدّسة بعضها فوق بعض. تشاهد جرذاً يفتك بأوراقها. إلى جانبها أعقاب سجائر وعبوات ماء فارغة وأوساخ مختلفة. زاوية أشبه بسلة مهملات، وليس بمكان لأرشفة القضايا. بعضها يعود تاريخه إلى أربعينيات القرن الماضي. تواريخ قديمة وحديثة. وحده الله يعلم أين أصبح أصحاب هذه القضايا. ربما ماتوا وربما لا يزالون أحياء. ربما ملّوا من المطالبة بحقوقهم. ربما ماطل بهم موظف، تحت عناوين مختلفة، ولا عنوان في الواقع إلا أن الملف ضائع، بعدما أصبح في الزبالة.

تضج الكآبة في أروقة في العدلية. ثمة رواق مظلم، كأن بشرياً لم يمرّ فيه منذ قرن. انتشرت في سقفه بيوت العناكب. هنا تحفظ الأوراق. يُشبه المكان قصر بران الذي عاش فيه دراكولا، مصّاص الدماء الشهير. تدفعك الحشرية لأن تجول أكثر في البهو الصامت. تدخل في رواق مظلم آخر. صمت مطبق. يطلّ النور في النهاية. بعض النور. تجد نفسك أمام رجل لا يتحرك. ينظر إليك ولكن لا يتحرّك. المكان هنا تحت الأرض. ترفع يدك تحية له... ثم لا يتحرّك. تتحدث إليه فتكتشف أنه ضرير. موظف جعلته الدولة في هذا المكان!
تقصد إحدى الموظفات، ممن مضى على وجودها في العدلية أكثر من 20 عاماً، لتسألها عن حالة الأرشفة وغياب المكننة. تضحك هازئة. تشير بسبابتها نحو درجها الخاص: «انظر... لديّ هنا أهم الملفات والقضايا، ولكن لا قفل لديّ، حتى الخشب منخور ومكسّر، بإمكان أي أحد أن يعبث بالأوراق». ورق، ورق، ورق. كيفما أشحت بوجهك هنا تجد الورق الذي تكاد بعض الدول تودّعه إلى الأبد، لا يزال يحفظ قضايا اللبنانيين، في دفاتر ضخمة، تغطي سطح المكتب في حال فتحت الدفتين على اتساعهما.
إلى متى هذا الحال؟ أما من ماء مقدس، من شغل الدولة، لرمي دراكولا التخلّف به؟ متى تصبح المكننة هي الأصل في عدلية بيروت، عدلية العاصمة، والتي إن كانت على هذا الحال يصبح غنياً عن الوصف حال عدليات المناطق.

قبل نحو ثلاث سنوات، تحدّث وزير العدل السابق إبراهيم نجار عن الأمر مراراً. قيل آنذاك إن الاتحاد الأوروبي قدّم منحة للاستفادة منها في شؤون المكننة. مرّت السنوات والورق يزداد ورقاً. حصلت تحسينات طفيفة. اليوم، يُعلن وزير العدل شكيب قرطباوي أنه وقّع اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، بشأن «هبة يتناول قسم منها مساندة خطة المكننة التي تقوم بها وزارة العدل». قرطباوي كان محامياً، ويحفظ العدلية عن ظهر قلب، ولا يكابر في الاعتراف بالمشاكل التي تعاني منها. يقول لـ«الأخبار» إن «دائرة المعلوماتية القانونية والقضائية في الوزارة تتابع عملها لأرشفة كل الملفات، ومكننة العمل في الوزارة وفي المحاكم، ما يتطلب وقتاً ومبالغ كبيرة من المال». فضلاً عن المال، يلفت قرطباوي إلى «مشكلة العنصر البشري، فكثير من موظفي العدلية لا يعرفون استخدام الكومبيوتر، ولا بد من تطوير قدراتهم، هذا في حال دخول الكومبيوتر إلى كل الغرف. وبالمناسبة، لقد شدّدت في الامتحانات التي أجريت أخيراً للموظفين الجدد على أن يمتحنوا في المعلوماتية، وبعض هؤلاء نجحوا وباشروا العمل في العدلية».
عندما يقال مكننة، فهذا يعني أنه لا بد من إدخال الأرشيف كله إلى الكومبيوتر، وفي ظل ملفات تعود إلى عشرينيات القرن الماضي فإننا أمام ملايين الأوراق. مهمة ليست سهلة. لكن، بحسب قرطباوي، المسألة ممكنة، شرط توفر «الإرادة والمال».
في دراسة وضعها القاضي وسيم الحجار، المشرف على مركز المعلوماتية في وزارة العدل، يلخص المشاكل التي تعرقل مشروع المكننة في النيابات العامة وقضاء التحقيق والمحاكم. أهمّها: عدم وجود وعي كاف لدى الحقوقيين لأهمية مكننة العمل القضائي، ولا سيما لدى المتقدمين في السن. تصبح الصورة أقرب إلى الفهم إذا ما علمنا أن بعض القضاة لم يستخدموا الإنترنت مرة واحدة، ومنهم ربما من لم يتعرّف على هذا العالم بعد، ولو حتى نظرياً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الموظفين. ومن الأسباب التي يوردها الحجار، الصعوبات الناشئة عن تعقيدات الإجراءات القضائية وتفصيلاتها وتنوعها، واختلاف التفسيرات بخصوصها بين مختلف المحاكم، وكيفية ترجمتها إلى «لغة منطقية يفهمها التقنيون المعلوماتيون». إذ ثمة لغة في العدلية يكاد سامعها، للوهلة الأولى، يظنها طلاسم أو ما يشبه التعويذات الواردة في السحر الأسود (الفودو).
ومن الأسباب أيضاً، عدم تطابق بعض النصوص القانونية الإجرائية مع المزايا التي توفرها المكننة (لجهة التبليغ الإلكتروني مثلاً أو النشر الإلكتروني أو توزيع العمل آلياً على القضاة). العائق هنا هو جمود النص، الذي لا بد من تعديله، وهذه ليست مهمة سهلة. بعض النصوص تُعنى بالحياة والموت، ومع ذلك يعجز كثيرون عن تعديلها. الأسباب بيروقراطية تارة، وعدم الجدية... تارة أخرى.
أخيراً، يتحدث القاضي الحجار عن عائق عدم جهوزية بعض المحاكم من النواحي المادية لاستقبال المكننة. من الأمثلة على ذلك ضيق الأمكنة، عدم توفر الكهرباء بشكل مستمر وخطوط الاتصال، النش وتسرب المياه... وتطول اللائحة. هكذا، نعود إلى العدلية المخيفة. العدلية التي، لأسباب سخيفة، تمتص العدالة من مستحقيها، تماماً كما كان يفعل دراكولا مع ضحاياه. مع فارق أساسي، أن مصاص الدماء الأخير كان يدخل الضحايا إلى قصره، ليمنحهم الخلود مقابل دمهم، فيما العدلية تمنح، مقابل التقاضي، جرعات من النفايات.



«عدالة» تحت الأقدام

لا تقتصر فضائح أرشفة الملفات القضائية على عدلية بيروت. فقبل نحو عامين، صُدم البعض عندما شاهد صور الأوراق المكدسة، التي كانت تتلفها مياه النش في أقبية عدلية بعبدا. لم يعد مشهداً مستهجناً أن يدوس بعض الزوار بأقدامهم على أوراق، بعضها ربما ذو طابع سري، في ظل عدم وجود من يحرسها ويحفظها. هكذا، بإمكان أي حذاء، بكل بساطة، الدوس على ما هو في الظاهر أوراق، بينما هو في الواقع أوجاع أشخاص عانوا «بهدلة» المقاضاة، لسنوات طويلة ربما، ولم يكن في بالهم أنه سيأتي اليوم الذي يصبح فيه سعيهم نحو العدالة مجرد قُمامة. لا يبدو أن قفزة الانتهاء من حقبة الورق متاحة حالياً، وخاصة مع تأكيد المسؤولين أن معظم الموظفين (رؤساء مصالح ودوائر، رؤساء أقلام، مساعدون قضائيون، كتاب...) ينحدرون من خلفية إما حقوقية أو أدبية. هؤلاء «يفتقرون إلى الإلمام المبدئي بالكومبيوتر، وخصوصاً في ظل المناهج التربوية التعليمية القديمة التي عايشوها، حتى إنه يمكننا تصوّر أن عدداً منهم لم يستخدموا الكومبيوتر في حياتهم».