الدرك يزنّرون مكان الاعتصام. بين هؤلاء بعض العناصر النسائيّة، الحديثة العهد، في الدولة. لنعرضهنّ في ضوء الشمس، لنظهرهنّ إلى الملأ وهنّ يعملن. منظر حضاري فعلاً، ومن يجرؤ على قول العكس. ها هنّ نساء دولتنا الكريمة يشاركن الرجل أصعب المهن. انظروا دولتنا تؤمن بالمساواة! لكن من يعرف اللبنانيين يعرف أنّهم موغلون في حبّ المظاهر، وهم أبرع ما يكون في إنتاج الصورة الجميلة. لكن لنتريث وننظر إلى الجهة المقابلة. لننظر إلى وجهنا الحقيقي، إلى ما هو أعمق وأبعد من المظاهر، إلى التفاصيل التي تحكم حياتنا. المشهد الكامل يظهر فرقة من الدرك، تزنّر اعتصام النساء اللواتي يطالبن بحقّهن في منح الجنسيّة اللبنانية لأزواجهّن وأولادهنّ، في عيد الأم، أمس، في ساحة رياض الصلح.
هنا الوجه الحقيقي لدولتنا. ذكوريّة، طائفيّة وظالمة حتى العظم. رغم عتب الكثيرين على «حملة جنسيتي حق لي ولأسرتي» في ابتعادهم في تظاهرتهم عن تظاهرة هيئة التنسيق، إذ أراد كثيرون أن تكون جبهة المطالب موحّدة في وجه جلسة مجلس الوزراء أمس، إلا أنّ الحملة نظّمت تظاهرتها في يوم الأم وفي ساحة رياض الصلح مقابل السرايا الحكومية لدلالة الزمان والمكان. إذ إنه منذ سنة كاملة، في 21 آذار 2012، أعطى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي وعداً إلى أمهات لبنان بتقديم عيديّة لهنّ، ترقى إلى حجم معاناتهنّ وهي الحق في منح المرأة اللبنانية الجنسية لأولادها. في ذلك الوقت شكّل ميقاتي لجنة وزاريّة مهمتها البحث في هذا الموضوع ووضع الأمر على جدول أعمال المجلس.
اليوم، بعد سنة، أصبح اسم هذه اللجنة «لجنة العار» نتيجة القرار الذي اتخذته برفض منح المرأة حقّها في إعطاء الجنسية لأولادها، وقرارها التعويض للمرأة عن سلبها هذا الحق برزمة تقديمات إلى الأطفال.
في تظاهرة أمس، شاركت نساء من مختلف المناطق مع أولادهنّ، وأعلنّ رفضهنّ الصريح لهذه التقديمات. «يستحوا ع حالن، ويبطلوا كذب» تقول دنيز. الشابة في سنتها الجامعيّة الأولى، نزلت إلى التظاهرة مع أمّها وأختها، فهذه هديّة أمهنّ في عيدها، سيهتفن معها من أجل حقّها وحقهنّ. تقول دنيز إنّها كانت تحلم بأن تصبح طبيبة وأختها محامية. الكلمتان تخرجان من فمهما وكأنّهما تخرجان من فم معدم يشتهي الطعام. فعوضاً عن تحقيق هاتين الرغبتين (البديهيتين)، ها هي دنيز تدرس الأدب الإنكليزي وأختها الرياضيات. ستصبحان مدرّستين. عليهما التزام الخيارات التي تعطيها الدولة لمن لا يحمل الجنسية اللبنانية، ويبقى كل طلب بسيط آخر مجرّد حلم.
ملك أيضاً تتعذّب. هي أمّ تعيش عذاب أولادها الذين بلغوا سنّ المراهقة. تقول «عندما تزوجت لم أكن أعرف أنني سأختبر كل تل المعاناة بسبب الجنسية، كانت الحياة فقط تبتسم لي ولزوجي الفلسطيني». رغم ذلك ترفض ملك وصديقتها أن تعبّرا عن أي شعور بالندم، إذ إنّ الزواج واختيار الشريك هو قرار شخصي بالنسبة إليهما، وعلى الدولة أن تحترم خيارهما وتمنحهما حقّهما بمنح الجنسية لزوجيهما وأولادهم. تقول منسّقة حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» لينا بو حبيب، إنّ الحملة لن ترضى بتقديمات اللجنة الوزاريّة، و«هذه التقديمات التي تحدثوا عنها إمّا هي موجودة أصلاً كالإقامة الدائمة وإمّا لا قدرة لهم على تحقيقها، كإجبار أي مدرسة خاصة على استقبال الأطفال الذين لا يملكون جنسيّة لبنانية». من هنا، أعلنت الحملة في بيانها أنّ الرئيس ميقاتي وأعضاء حكومته فشلوا في الوفاء بتعهداتهم، ليس للأم اللبنانية فحسب وإنما أيضاً لالتزامات لبنان بحسب الدستور والمعاهدات الدولية. في البيان تصوّب الحملة سهامها نحو من كانوا العثرة الرئيسية أمام منح هذا الحق للمرأة اللبنانية، إذ يقول «نجح روّاد التوازن الطائفي من تيار وطني ومردة في ليّ أذرع الأعضاء الآخرين للجنة الوزارية المكلّفة دراسة تعديل قانون الجنسية، دافعين أعضاء اللجنة من مؤيدي رئيس الجمهورية والحكومة، ومن حزب الله وحركة أمل، إلى رفض اقتراح المساواة، باستثناء الوزير وائل أبو فاعور الذي لم يحضر اجتماعات اللجنة بتاتاً... ويضاف الفشل الذريع للحكومة في موضوع الجنسية إلى فشلها في عدّة ملفات اقتصادية واجتماعية وسياسية حيويّة».
في ظلّ هذا الواقع، لا يمكن التغاضي عن وجود الدركيات في التظاهرة. لقد انضممن إلى القوى الأمنية المولجة حماية التظاهرات، في تظاهرة «رقيقة» يفترض أن يغيب العنف عنها لنسويتها. لكن، متى سيكفّ المنظر عن أن يكون «رقيقاً»، ليظهر بشاعة معاناة النساء الواقفات في الجهة المقابلة؟