رغم أن أولويات المواطن لم تعد تجد لها محلاً لدى أهل السلطة، إلا أن أصحاب الحقوق لا يوفرون مناسبة دستورية أو تشريعية أو سواها لطرح قضاياهم العالقة، والإيجارات القديمة أبرزها. 21 سنة مضت على انتهاء الحرب الأهلية لم تكن كافية لمعالجة هذه القضية. المشهد هو نفسه اليوم: انقسام حادّ في الآراء بين المستأجرين والمالكين، في ظلّ عدم وجود قرار لدى السلطة، وتمديد المشكلة التي حملت في ثناياها تجاذبات الطرفين. المتغيّر الوحيد هو أن هذه المشكلة لا تسقط بمرور الزمن، بل تزاد تعقيداً؛ فالمستأجرون والمالكون يتوارثون المشكلة من الجدّ إلى الأب ثم الأولاد، في ظل تطورات عقارية تدفع أسعار الشقق صعوداً بوتيرة جنونية. أما انعكاس زيادة غلاء المعيشة على الإيجارات، فقد أصبح خاضعاً لأكثر من تفسير قانوني ومتضارب، رغم أن طريقة احتسابه سهلة وواضحة.
هذه هي حال المستأجرين والمالكين اليوم؛ فما استجدّ على نقاط الخلاف بين الطرفين لا يقتصر على القانون الجديد، بل تعدّى ذلك إلى كيفية احتساب زيادة غلاء المعيشة في قيمة الإيجار. هذه النقطة دفعت المالكين القدامى إلى «تهديد المستأجرين وابتزازهم» على حدّ توصيف نائب رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين القدامى عصمت عبد الصمد. يعتقد الرجل أنه «أمام التناقض الذي وقعت فيه الهيئات القضائية وقرارات الوزارات المختصة واجتهادات كبار المحامين واستغلال أصحاب الأملاك، يضيع حق المستأجر الصغير، كما هي ضائعة حقوق الطبقات الشعبية والفقراء والعمال والأجراء والموظفين وكل أصحاب الدخل المحدود في هذا البلد». وينطلق عبد الصمد من مسلّمة واحدة، أنه «وفقاً لقانون الإيجارات المعمول به حالياً، تزاد الإيجارات بنسبة 50%. وبما أن زيادة الإيجارات هي لاحقة لزيادة غلاء المعيشة، فإن ما يطبق على زيادة الأجور يطبق على زيادة الإيجارات، بمعنى أنه يمكن أن تزاد بدلات الإيجار بنسبة 50% بعد أن تحسم منها كل زيادة مدفوعة بين 2008 و2012... عندها فقط تكون نسبة الزيادة عادلة».
على الضفة الثانية للأزمة، لا يزال يُمدَّد للقانون الذي يرعى العلاقة بين المستأجر والمالك في انتظار صدور قانون جديد. كل طرف يحاول أن يشارك في صياغة بنود جديدة تعطيه الأفضلية أو تغلّب مصلحته على مصلحة الطرف الثاني، ما حفّز السياسيين على المتاجرة بهذه القضية بعيداً عن المعايير العلمية والمبادئ القانونية والإنسانية. بهذه الخلفية، جاءت فكرة الإيجار التملكي لتطبيقها كبديل من الإيجارات القديمة. هذا المشروع البديل وجد سنداً له في لجنة الإدارة والعدل التي أحالته على مكتب مجلس النواب في انتظار عرضه على الأمانة العامة لإقراره. وقد أصبح هذا القانون أهم مطالب «تجمّع مالكي الأبنية المؤجرة». ففي بيان أصدره أمس، دعا التجمّع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي إلى عرض الموضوع على الجلسة العامة وإلغاء التعويضات للمستأجرين.
الأب الفعلي لهذا الاقتراح هو وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور. أما المعترض الأول عليه، فهو الأمين العام لجبهة التحرّر العمالي ومفوض العمل والنقابات في الحزب التقدمي الاشتراكي عصمت عبد الصمد. هو نفسه المدافع عن حقوق المستأجرين. من موقعه الأخير، يؤكد عبد الصمد أن «المستأجرين مظلومون، ولم يلحِقوا الظلم بأي مالك، بل الدولة هي التي ألحقت الظلم بالطرفين». لكنه لا يكتفي بهذا الأمر، فالمشروع المطروح في مجلس النواب ينطوي على عيوب كبيرة، من شأنها زيادة الأزمات الاجتماعية واستكمال ما أفرزته الحرب الأهلية من فرز طائفي، وتهجير اللبنانيين. إنه مجزرة بكل ما للكلمة من معانٍ».
اللافت بالنسبة إلى عبد الصمد، أن السلطة في لبنان عمدت إلى معالجة موضوع المهجرين كجزء من إزالة بعض آثار الحرب الأهلية والاقتتال، لكنها لم تفكر يوماً في معالجة ملف اجتماعي يحمل أوزار الحرب الأهلية وويلاتها، ويشير إلى أن «الإيجار التملكي كان يهدف في البدء إلى تشجيع المستثمرين لتشييد مبانٍ جديدة تباع بهذه الطريقة، ثم أصبح يسوّق له ليكون علاجاً للإيجارات القديمة! إلا أنه مشروع يستكمل الحرب الأهلية، ما يوجب علينا إسقاطه في الشارع».