في 17 حزيران 1982، وبعد أيام من بدء الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وقعت معركة في كلية العلوم اللبنانية ــ الحدت، فُقد فيها ماهر قصير ابن السادسة عشرة من العمر. ماذا تعرف الأطراف المتحاربة التي كانت على الأرض يومها عن هذ المعركة؟ ماذا يعرف كلّ من الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه ماهر؟ حركة أمل التي كانت موجودة في المكان؟ والقوات اللبنانية التي اقتحم عناصرها المبنى واحتلوه؟
«رفيق» ماهر في الحزب الشيوعي، شوقي حسان، يتذكره جيداً. يروي لكاميرا إليان الراهب في فيلمها «ليال بلا نوم» أين كان متواجداً وما كانت مهمته تلك الليلة. الحزب الشيوعي يعرفه أيضاً، وقدّم ورقتين لوالدته عنه، تفيد الأولى بأنه مفقود والثانية أنه شهيد. أما قائد العمليات العسكرية في الحزب آنذاك، الياس عطاالله، فلا يتذكر الفتى... ولا يعرف شيئاً عما حصل في كلية العلوم! «حقيقة ما بعرف شي» يقول وهو يحاول إشعال السيجار مراراً. عندما تعرض صورته عليه، ينفي أن يكون ماهر قصير مقاتلاً في الحزب «لا لم يكن مقاتلاً، السلاح كان منتشراً وهو راح يقاتل». يستغرب سؤال الراهب عن معركة محددة ويوم محدّد في حرب طويلة شملت لبنان «لا روزنامة محددة عندي للأيام، عندي روزنامة للأحداث الكبرى... أنت ليش بدّك تعرفي قصة العلوم؟» يسأل.
الحقيقة أن مريم السعيدي، والدة ماهر، هي من يريد أن يعرف. تحاول ذلك منذ ثلاثين عاماً ولم تنجح. «الياس عطاالله صار حليفاً لمن اقتحم مبنى العلوم» فهل يمكن أن يسألهم عن مصيره؟ من هم الذين كانوا أعداءك يومها؟ يُسأل فيجيب «نسيناهون».
أبو جعفر وعقل حمية، ابنا حركة أمل، لا يذكران ماهر تحديداً، «لكن الشباب الذين كانوا هناك ضاعوا وما انعرفوا وينن».
أسعد الشفتري، القواتي الشهير الذي تلا فعل الندامة عما ارتكبه خلال الحرب، لا يعرف أيضاً. بالنسبة إليه معركة كلية العلوم لم تكن مهمة «أخدناها وما تغيّر شي».
هل فهمنا جيداً؟ هناك معركة وقعت بين أطراف لبنانية مختلفة، سقط فيها من سقط وفقد فيها من فقد، والمعنيون بها لا يعرفون شيئاً عنها. هي تفصيل، هي غير مهمة. لذا ضاعت في زحمة الاحداث... حتى أبطالها الأعداء تصالحوا... و«نسيناهون». نعم، هذه هي الحقيقة بكل فجاجتها. تصالح أعداء الأمس، حصلوا على عفو عام، واحتلوا مراكزهم في دولة ما بعد الحرب... فلماذا نزعجهم بالسؤال عن مصير 17 ألف مخطوف ومفقود؟ وماذا يعنينا من أهلهم الذين يعانون منذ ثلاثين عاماً؟
هم نسوا، لكن أهالي الضحايا لم ينسوا. يتذكرون التفاصيل. يحملون الصور ويحوّلونها أشخاصاً، يبحثون من دون يأس... يأس لا يقوى العلاج النفسي على معالجته. تخيّلوا؟ هذه الكسندرا عسيلي تحاول في الفيلم. بصدق، تقول لمريم بعربية مكسّرة، إنها ترغب في مساعدتها وإن عليها أن «تسامح نفسها» وأن «تضع الألم جانباً». تسألها مريم «ع شو بدي سامح نفسي؟ أنا الضحية ولست المجرم.. أي ألم سأضعه جانباً. هل تعرفينه أنت؟».
الكسندرا لا تعرفه، لكنها تعرف كيف تقيم حفل افتتاح لـ«حديقة السماح» في بيروت يحضره سفراء أوروبيون وتتلى فيه شهادات الندم وسط تصفيق حار، تبحث مريم السعيدي في صداه عن ابنها... من دون جدوى. هذا هو المجتمع المدني الذي انتشر في سنوات ما بعد الحرب ليعزّز ثقافة السلام ويحلّ النزاعات، وينشر الشفافية والديموقراطية. هنا تنفق الأموال، في حين توضع مشاريع القوانين المطالبة بالعدالة في الأدراج.

«دلّني على قبر ابني يا اسعد شفتري» تصرخ مريم في الفيلم، فيما يبقى هو صامتاً. الرجل الذي يخضع لعلاج نفسي يكتفي بما قاله «وما لم أقله يخصّ آخرين». ليس مضطراً لتحميلهم ما لا يريدونه لأنفسهم. لكن إليان لا تيأس، تبحث عن مقاتل سابق يوافق على قول ما يعرفه، شرط عدم مواجهة الكاميرا وعدم مواجهة مريم. تصطحبه إليان إلى مبنى كلية العلوم، فيروي تفاصيل المعركة التي تحفظها روزنامته. يشير بيده إلى المكان الذي دفنت فيه الجثث، ولاحقاً تشير إليان بيدها إلى المكان لتدلّ مريم إليه... ومن خلال شهود آخرين، يكشف الفيلم عن مقبرة جماعية ثانية في الكرنتينا.
مقبرتان جماعيتان كشف عنهما فيلم «ليال بلا نوم»، الذي عرض أمس في سينما أمبير ــ صوفيل بدعوة من «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» و«المفكرة القانونية» و«لنعمل من أجل المفقودين». وأعقب العرض مؤتمر صحافي أعلن فيه المحامي نزار صاغية أن أهالي المفقودين والمخطوفين سيعتمدون على هذا الفيلم كمصدر أساسي لرفع دعاوى قضائية جديدة تتيح الكشف عن المزيد من المقابر الجماعية في لبنان، بعد مارمتر والشبانية والتحويطة والبقاع وغيرها. ورأى صاغية أن مريم السعيدي قدمت في هذا الفيلم «أفضل مرافعة لحق الأهالي في المعرفة». وأمل مع فتح هذه الدعاوى أن تخف المجابهة التي يتعرّض لها الأهالي ليحصلوا على حقهم في معرفة مصير أبنائهم وأقاربهم «يفترض أن يكون الانتقال إلى المسرح القضائي لمصلحة الاهالي» يقول. فالعدالة هي ما يبحث عنه هؤلاء وليس العلاج النفسي الذي يحتاج إليه المرتكبون.
أما رئيسة «لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين» وداد حلواني التي أكّدت الاستمرار في العمل من اجل إقرار قانون «الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً»، فأكدّت أن ما يطلبه الأهالي من كشف للمقابر الجماعية ليس مستحيلاً بما أن الفيلم استطاع تحقيق جزء منه. تضيف «نحن لا نريد أن نلغي قانون العفو لكننا نريد أن نعرف، ومشروع القانون الذي نطالب به سيحاسب من يخفي المعلومات». ولم تنس حلواني أن تلفت إلى أن ما تميّزت به إليان الراهب لتصل إلى المقبرتين هو الإرادة، ما تفتقده الدولة إلى اليوم رغم مرور 23 عاماً على انتهاء الحرب.