جنة، بسري، بقعاتا المتن... هذه هي السدود الثلاثة التي أعلنت وزارة الطاقة إطلاق ورش بنائها للحدّ من الهدر في مياه الأنهر، في إطار خطة الوزارة لبناء السدود في لبنان. وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل كان قد أكدّ مباشرة العمل وإنهاء الدراسات الضرورية لضمان نجاح هذه المشاريع. لكن المتابع للموضوع سيلفته عدم الالتفات أن هذه الدراسات أغفلت المواقع الأثرية التي ستغمرها مياه السدود وتضيع إلى الأبد.
فمن المعروف، والمعترف به، حتى في الاتفاقيات مع البنك الدولي، أن تدمير الآثار من الأضرار التي تسببها السدود، لذا تدرج حفريات الإنقاذ كبند أساسي في تمويل السدود، وفي التنظيم، قبل المباشرة بالاعمال.
لا يمكن تجاهل هذه المعلومة إذا علمنا أن المناطق المشار إليها أعلاه (جنة وبسري وبقعاتا المتن) لم تدرس تاريخياً ولا أثرياً بشكل مفصّل. لكنها قد تكون ذات قيمة أثرية، إذا تذكرنا أن الإنسان في العصر الحجري أقام في المغاور في منطقة نهر إبراهيم منذ فترات الترحال الأولى (قبل 150.000 سنة)، حتى أنه ترك في إحدى مغاورها أحجاراً صوانية منحوتة بشكل لم يكن يعرف سابقاً فأخذ اسم «صقلة نهر إبراهيم». ويمكن أن تكون المنطقة قد سكنت في الفترات التاريخية اللاحقة، إذ توجد فيها المقومات الاساسية للحياة من مياه وأراض زراعية عدا قربها من البحر. وبحسب الأساطير، فجنة نهر ابراهيم هي الأرض التي جرت عليها أحداث أسطورة ادونيس وعشتروت. صحيح أن لا وجود مادياً لهذه الاسطورة، لكن ارتباطها بالدين وبالعقائد يفسّر غنى القرى المطلّة على الوادي بالمواقع الأثرية مثل ينوح ومشنقا وأفقا.
ومن المؤكد أنه لم تجر حتى اليوم أي عملية مسح أثري مفصّل لمنطقة وادي جنة، خصوصاً تلك التي ستغمرها مياه السدّ. كما لم يجر تبادل مراسلات بهذا الخصوص بين المديرية العامة للآثار ومصلحة مياه بيروت وجبل لبنان المكلفة من قبل وزارة الطاقة بباء السد وتمويله التي تصل الى 250 مليون دولار.
اما بالنسبة لسد بسري، فيوضح الدكتور وسام خليل، مدرّس الآثار في الجامعة اللبنانية بأن «المعبد الروماني يبعد عنه مئات الامتار فقط إذ يقع عند التقاء نهري عاراي والباروك المعروف بنهر بسري. تشييد المعبد في هذه النقطة لم يكن صدفة، بل لأسباب دينية، فالطقوس كانت مرتبطة بالمياه، والجدير بالذكر أن معبد إله الشفاء لدى الفينيقيين إشمون، الذي ترتبط طقوس عبادته بشكل وثيق بالمياه، يقع على مجرى نهر الاولي، اي على بعد مئات الامتار من هذا المعبد الروماني الذي لا تزال اعمدة واجهته صامدة في مكانها بعدما كان طمي النهر قد غمر اساساته وارضيته التي يصل طولها الى 14 متراً».
من المؤكد أن المعبد الروماني ليس الأثر الوحيد في منطقة بسري، بل هناك منشآت رومانية اخرى دفينة إذا لم يجر التنقيب عليها فستغمرها المياه وتضيع. فمن المعروف أن للسدود آثاراً جانبية على المعالم الاثرية، لذا تدرج الدراسات الاثرية لمناطق الغمر من ضمن الجدول الزمني لعملية البناء، وتدخل في الموازنة العامة. فتتم عمليات الانقاذ للآثار، ويرفع ما يمكن رفعه... والمباني تغمر بالمياه لتصبح مدن غارقة! وللتخفيف من وطأة الاذى عن الآثار، يفرض البنك الدولي حماية الآثار كبند اساسي لقبوله بتمويل السدود، وكان سنة 2010 قد انسحب من سد إليسو لانه كان سيغمر موقع وقرية حسن كيف التاريخية.
في لبنان، الذي أغفل هذا الأمر، لا يزال ممكناً العمل لإنقاذ الآثار من الغمر، عبر إطلاق حملة وإشراك الجامعات الخاصة والرسمية اللبنانية فيها، كما يمكن الاستعانة بالبعثات الاجنبية التي كانت تنقّب عن الآثار، والتي تجاوز عددها الـ100 قبل الحرب. إذ لا يزال القسم الاكبر من هذه البعثات يبحث عن مواقع اثرية جديدة لاطلاق دراساته وقسم كبير منه كان قد إختص في إنقاذ المواقع الاثرية من الغمر جراء بناء السدود في سوريا.
طرق الانقاذ متعددة ومعروفة لبنانياً وعالمياً، وبما ان الاموال رصدت وبالطبع لا تأتي كلفة إنقاذ الآثار بكلفة البناء، فيجب ان لا يكون هناك اي عوائق أمام إتمام هذه المشاريع الانمائية من دون اي لغط حولها فتأتي بأقل أضرار على البلد وتاريخه الممكنة.