لم تفاجئ أحداث طرابلس، واستطراداً توترات عكار، أياً من أبناء الشمال. كانوا يعرفون أن المدينة على فوهة بركان، وأن الاحاديث الشعبية تعبّر في طياتها عن كثير من المخاوف من تداعيات معارك المحافظات السورية على محافظتي طرابلس وعكار. قبل أشهر من الآن، كانت الأنظار تتوجه الى معركة دمشق. انتظرتها القوى الموالية للمعارضة السورية إقليمياً ولبنانياً، حين تأزم الوضع حول مطار دمشق قبل أسابيع طويلة. لكن المطّلعين على مجريات الحرب السورية كانوا يعرفون أن معركة حمص هي هدف النظام السوري التالي وليس معركة دمشق.
حينها ناقض هؤلاء كل معلومات السفارات الغربية في بيروت التي كانت طواقمها تراهن على أن معركة دمشق ستكون فاصلة وستهزّ عرش النظام السوري.
ففي الجغرافيا، تشكل حمص الممر الاساسي والمعبر الضروري للنظام لوصل دمشق بالساحل السوري وحمايته. وهي تواجه لبنانياً محافظة بعلبك ـــ الهرمل من جهة وعكار من جهة أخرى. ولأن موقع حمص حيوي كانت معركتها أمراًَ حتمياً، وكذلك الامر تداعياتها على لبنان. فإذا كانت بعلبك ـــ الهرمل متآلفة مع الضرورات التي حتّمت على حزب الله الدخول في معركة القصير، فإن عكار ومن ورائها طرابلس تنتظران منذ أكثر من سنة الفرصة السانحة للرد على تدخل حزب الله في سوريا.
في تطورات الشمال يجدر التوقف عند حدّين فاصلين سياسياً وعسكرياً، في ظل تحول لبنان رهينة الوضع السوري.
عسكرياً، لا يحسد الجيش اللبناني على موقعه الذي يتعرض فيه يومياً لإطلاق النار السياسي والامني من أكثر من جهة. ففي حين يتلقّى دعماً أميركياً وأوروبياً كي يستمر ضامناً للاستقرار في مرحلة دقيقة لبنانياً وإقليمياً، فإنه في المقابل يفقد تحت وطأة الازمة السياسية أداته التنفيذية من خلال تعطيل المجلس العسكري، وعدم بت وضع صلاحياته رغم الوعود المتتالية بحل قريب لها، ووقف صرف بعض احتياجاته بحجة تصريف الاعمال، فيما يبرز التحدي الاكبر باحتمال الدخول في مرحلة الفراغ في قيادته أسوة بالمخاطر التي تحيط بالمؤسسات الدستورية الأخرى.
في هذه المعمعة جاءت أحداث طرابلس لتعطي إشارة أكثر خطورة وحدّة عن مجرد الرد على معركة القصير واستهداف حزب الله. فما يحصل في الشمال من وضع متفجر وخطير على نحو غير مسبوق، لا يشبه الأحداث التي مرت سابقاً على المدينة ولا حتى على مستوى علاقة الجيش بها. هناك من يخاف أن يكون الهدف إخراج الجيش من طرابلس ومن الشمال الذي سبق لقيادة الجيش أن حاورت مسؤولين سياسيين وقادة ميدانيين فيه لمنع انتقال الفتنة السورية الى لبنان، وأرسلت تعزيزات اليه لمزيد من الضبط الميداني. وهناك أيضاً من يريد أن يوجه رسائل مباشرة الى الجيش لإخراجه من دائرة التوتر التي يمكن ألا تبقى محصورة في الشمال، وأن تتمدد إلى أكثر من منطقة ربطاً بتداعيات الحرب السورية. من هنا تفهم الرسائل الميدانية والرسائل الاعلامية التي تستهدف الجيش بعناصره ووحدته.
لكن ليست وحدة الجيش التي تقلق قيادته التي سبق أن تلقّت سابقاً مثل هذه التهديدات والتوصيفات. فقائد الجيش العماد جان قهوجي يحرص مراراً وتكراراً على تأكيد وحدة المؤسسة العسكرية، وهو كلام سبق أن أكده علناً وفي مجالسه الخاصة، وفي لقاءاته مع الضباط وقادة الوحدات أكثر من مرة، وخصوصاً أن الجيش مرّ في الاعوام الأخيرة بأكثر من تجربة مرة، لكنه تمكن من اجتيازها بتعزيز وحدته. لكن في المقابل يدرك الجيش خطورة أحداث كتلك التي استهدفت قنصاً عسكرييه وضباطه في طرابلس. ويعرف تماماً أن مثل هذه التصرفات ليست بنت ساعتها وليست وليدة لحظة متفلتة من الضوابط، وأن هناك من يحاول إشعال فتيل التفجير عبر التعرض للجيش عسكرياً وعبر اللعب على وتر التجييش السياسي والمذهبي.
ثمة خشية من أن يكون الهدف يتعدى تفجير طرابلس أو حتى مناطق عكار بين طرفين سياسيين، ليكون جوهره دفع الجيش الى إخلاء مراكزه في طرابلس، وتحويل عناصر الازمة الراهنة الى عنصر تفجير مباشر ينقل الازمة من المراوحة الى دائرة الخطر المباشر. فهل المطلوب أن يأتي الرد على أحداث القصير ودور حزب الله فيها استهداف الجيش ما دام أطراف النزاع في الشمال اتخذوا على ما يبدو قرار المواجهة؟ وهل يمكن أن يكون الهدف إشغال المؤسسة العسكرية في لحظة مفصلية في مواجهات داخلية؟ وماذا بمقدور الجيش أن يقوم به من خطوات تتعدى تنفيذ إعادة انتشاره في المدينة، لتكون في صلب المعالجة الجذرية لوضع شائك، تتشابك فيها المعطيات الإقليمية والدولية وتتصارع على أرض طرابلس؟
وهنا لبّ الكلام السياسي حول الجيش. هناك من يحمّل السلطة السياسية مسؤولية عدم تأمين مظلة سياسية للجيش في أكثر اللحظات دقة، ومن يحمّل في المقابل الاطراف السياسيين مسؤولية رمي خلافاتهم في حضن الجيش، وسط أسئلة عن دور القوى السياسية العاقلة شمالاً في كبح جماح الهادفين الى تسريع وتيرة الفتنة الداخلية. لكن الوقت لم يعد ملائماً لتحميل المسؤوليات ما دام الانفجار الكبير قد وقع. ولعل أكثر ما يجب التوقف عنده سياسياً في الوقت الراهن هو دور السلطة التنفيذية، في ظل حكومة مستقيلة.
بحسب أوساط رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي، فإن بحثه مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان تناول أمس احتمال انعقاد المجلس الأعلى للدفاع، وليس مجلس الوزراء، من أجل متابعة التطورات الشمالية، مع العلم بأن قيادة الجيش، بحسب هذه المصادر، لديها التغطية السياسية الكاملة، وهي تنفذ تعليمات ومقررات سبق لمجلس الوزراء أن اتخذها ولا تزال سارية المفعول.
لكن هل المشاورات السياسية في الحد الأدنى كافية للجيش وهو الذي يكاد يُستنزف منذ عامين حتى اليوم؟ وهل تكفي هذه الاتصالات لإبعاد طرابلس عن جحيم الفتنة، أم المطلوب إدخالها فيها لتسريع وتيرة المواجهة السياسية الداخلية، وتحييد الجيش عن هذه المواجهة؟