دخل الطبيب الشرعي إلى مشرحة في بعبدا لمعاينة إحدى الجثث، ففعل، ثم انتقل لمعاينة سروال صاحب الجثة. دسّ يده في الجيب، ليجد مبلغاً من المال، فأخذه وأخفاه ثم خرج مبتسماً. إنها جثة «مربحة». هو طبيب شرعي خان القسم، ومهما كانت ظروفه ومبرراته، فهو يسيء إلى المهنة ويعرّض حقوق الناس للخطر.
من ينقل هذه الرواية ليس شخصاً بغير صفة، بل زميل لهذا الطبيب ويعرفه عن كثب. هل هي الغيرة بين الأطباء؟ ربما. لكن هناك أمثلة كثيرة تدفع الى رفع الصوت ضد الممارسات الشائنة لبعض الأطباء، فهؤلاء جزء من شريحة لديها القدرة، بمجرد توقيع تقرير طبي، على أن تُسهم في تبرئة مجرم أو تجريم بريء. المحاكم تأخذ بهذه التقارير قبل إصدار أحكامها. إذاً، المسألة ليست عابرة، على عكس مع هو ظاهر في التعامل معها من قبل المعنيين. المعنيون هنا كثر، ليست وزارة العدل أوّلهم وليس القضاة آخرهم.
في رواية أخرى يرويها طبيب شرعي آخر. جاءه شاب يطلب منه تقريراً طبّياً يشير إلى وجود كسر في يده. قال له أعطيك المبلغ الذي تريده مقابل التقرير. رفض الطبيب، هكذا يقول. صرخ في وجه الشاب وقال له منفعلاًُ «هل تظنني الطبيب الفلاني حتى أفعل هذا... اذهب إليه ولا تعد إلى عيادتي». وبالفعل، سمع الشاب النصيحة وذهب إلى الطبيب «المعروف بفساده»، وحصل على التقرير المطلوب مقابل مبلغ من المال. صاحب الرواية يقول إنه تأكّد من ذلك لاحقاً، لأن القضية استفزّته، وبالتالي قام بتحرياته، وعرف من الشاب أنه حصل على التقرير «غب الطلب». نقلت «الأخبار» هذه الرواية إلى وزير العدل، فلم تفاجئه، إذ يعلم أن «هذا القطاع فيه الكثير من الشوائب». الطبيب الذي نقل الرواية على استعداد للإفادة بها إلى الجهة المختصة، إن وجدت، لكنه يعلم أن «لا حسيب ولا رقيب».

انتحار أم جريمة قتل؟

توفّي السجين غسّان قندقلي في رومية مطلع السنة الجارية، وقيل بداية إنه انتحر، ليتبيّن لاحقاً أن ثمة من عذّبه حتى الموت. يومها ذهب الطبيب الشرعي لمعاينة الجثّة، فخرج بتقرير لا يفيد بوجود آثار تعذيب، ما عزّز فرضية الانتحار. لاحقاً، علمت «الأخبار» أن الطبيب خاف من السجناء، سجناء «فتح الإسلام» وسواهم من «الإسلاميين» في المبنى المخصص لهؤلاء. خوف الطبيب منعه من أن يعطي إفادة حقيقية. حسناً، لماذا لم يتحدث عن هذا الأمر للنيابة العامة بعد خروجه من السجن؟ الجواب: «لا جواب». لاحقاً، وبعدما أجرى طبيب شرعي آخر فحصاً للجثة، برفقة آمر سرية السجون العقيد عامر زيلع، اتضح أن ثمة آثار تعذيب على جسد القتيل، كدمات من أنواع مختلفة، وعلامات انحسار الدم في منطقة العنق تشير إلى حصول شد من جهة الوسط، على عكس الشد الذي يحصل في حالة الشنق، إذ تكون الآثار عندها ظاهرة بشكل مختلف. هذه من بديهيات العلم الجنائي التي يفترض بأي طبيب شرعي أن يلمّ بها. إذاً، من حالة انتحار إلى جريمة قتل، إلى هذا الحدّ كان دور الطبيب الشرعي جوهرياً. قيّدت القضية بأسماء سجناء، من الموقوفين، ولكنهم لم يحضروا إلى المحاكمة متحدّين القوى الأمنية. تلك حكاية أخرى.
قصة أخرى ينقلها طبيب شرعي. قُتل شخص في الضاحية الجنوبية، في حادث غامض، فجاء طبيب وأجرى كشفاً على الجثة. خرج بنتيجة تقول: «كسر في الجمجمة مع نزيف دم حاد». هذا ما أدّى إلى الوفاة. دُفنت الجثّة. لاحقاً أوقف مشتبه فيه بجريمة القتل. في إفادته قال إنه أطلق النار من مسدس حربي على رأس المجني عليه. التقرير الطبي يقول كسر في الجمجمة، لكن إطلاق النار يحدث ثقباً، هكذا يفترض، وبالتالي التحقيق أمام معضلة. هنا طلب القضاء إعادة نبش القبر والكشف على الجثة مجدداً. وبالفعل هذا ما حصل على يد طبيب شرعي آخر. وضع الأخير تقريره، بعد الكشف، ليظهر وجود ثقب في الجمجمة، وبالتالي تبيّن فعلاً أن ثمة طلقاً نارياً قد صوّب على رأس القتيل. ترى ما السبب الذي جعل الطبيب الأول يضع تقريراً بمعلومات خاطئة؟ الجواب ببساطة: «لقد كانت الجثة شبه متحللة، ولهذا شعر الطبيب بالقرف من إجراء الكشف كما يلزم، فوضع تقريره كيفما اتفق». إذاً، نحن أمام طبيب شرعي يشمئز من عمله و«يقرف»!

واقع قانوني غريب

في لبنان نحو 90 طبيباً شرعياً، أكثرهم غير متخصص في الطب الشرعي. هذا الاختصاص الذي أصبح تحصيل حاصل في الخارج، لا يزال في لبنان أمراً غير لازم. مثلاً طبيب متخصص في الأمراض النسائية يعمل في الطب الشرعي. عند التدقيق في اختصاصات الأطباء الشرعيين تصبح كل الحالات المذكورة آنفاً متوقّعة. اللافت أن لا جهة يتبع إليها هؤلاء الأطباء، أو بمعنى أدق «لا جهة قانونية من جانب القضاء معنية بمحاسبة هؤلاء عند حصول الأخطاء». يؤكّد وزير العدل شكيب قرطباوي ذلك، طبعاً هم مسجلون لدى نقابة الأطباء، وهذه النقابة لديها ما يكفي من مشاكل الأطباء العاديين، وبالتالي لا ينقصها مشاكل إضافية. لا شيء، في القانون، يوضح التعرفة التي يجب أن يتقاضاها هؤلاء الأطباء لقاء كشفهم على كل جثّة. وهذا، بالتالي، بحسب قرطباوي، ما فتح الباب واسعاً أمام «استغلال الأطباء لأقارب الميت الذين يطلبون الكشف على الجثة التي تخصّهم، وذلك بسبب غياب النص الملزم بتعرفة محددة». بالتأكيد، المبلغ المتعارف عليه، وهو 50 ألف ليرة، لا يمكن إقراره لهؤلاء الأطباء. فمثلاً، كلفة الانتقال بالسيارة إلى مكان الجريمة يكلّف أحياناً بدل وقود أكثر من هذا المبلغ، وبالتالي «لا بد من وضع آلية تكون منصفة للأطباء».
في هذا الإطار، ترأس قرطباوي أخيراً لجنة تضمّ قضاة ورئيس مصلحة الطبّ الشرعي، التابعة لوزارة العدل. هدف هذه اللجنة تحديد الأولويات في الطبّ الشرعي وتحديث النصوص القانونية. يُذكر أن المرسوم التنظيمي الأساسي (الرقم 7384) الذي يعمل به في هذا المجال، يعود إلى عام 1946. وفي سياق متصل، اجتمع قرطباوي مع نقابتي أطباء لبنان في بيروت وطرابلس، بغية تحديد المعايير الطبية التنظيمية الجديدة وآليات المراقبة والمحاسبة. وكانت وزارة العدل قد دعت الأطباء الشرعيين، المنتسبين إلى مصلحة الطب الشرعي، في تعميم خاص، إلى «إعادة تقويم ملفاتهم الشخصية في الوزارة وإبراز إفادة من نقابة الأطباء التي ينتسبون إليها، تثبت تسجيل اختصاصهم لديها، وذلك في إطار إعادة نظر شاملة في وضع الأطباء الشرعيين في لبنان».
يُشار إلى أن المادة 39 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على الآتي: «إذا مات شخص قتلاً، أو بأسباب مجهولة باعثة على الشبهة، يستعين المدعي العام بطبيب أو أكثر لتنظيم تقرير بأسباب الوفاة وبحالة جثة الميت. كذلك تنص المادة 40 من القانون المذكور على أن «الطبيب ملزم بأداء القَسَم القضائي أمام رئيس محكمة الاستئناف، على أن يقوم بمهمته بما يفرضه الضمير، لذلك يُعدّ الطبيب الشرعي ضابطاً عدلياً مساعداً للعدالة».

مشرحة أم مسلخ؟

من جهته، يلفت رئيس جمعية الطب الشرعي في لبنان، الطبيب حسين شحرور، إلى أنه «لا حل لتجاوزات عدد كبير من الأطباء الشرعيين، ولا أقول كلهم، إلا بفرض الاختصاص عليهم، لأن وزارة العدل تعلم بوجود أطباء مكلفين وهم لم يجروا دورة اختصاص في حياتهم». وفي حديث له مع «الأخبار» يضيف شحرور: «أيضاً عليهم التخلص من عقلية الواسطة في تكليف الأطباء الشرعيين، فنحن صراحة لا نحتاج إلى 90 طبيباً. فالعراق مثلاً على مساحته الواسعة وعديد شعبه لا يوجد فيه سوى 50 طبيباً شرعياً. الأطباء الذين دخلوا بالواسطة، وهم يخصون الزعماء وبعض الجهات القضائية، الكل يعرفهم، وأنا حاضر لأن أبلغ وزير العدل عنهم بعيداً عن الإعلام». يتحدث شحرور عن عدم وجود مشرحة «حقيقية» واحدة في لبنان، فتلك التي في بعبدا «حرام أن نسميها مشرحة، هي أقرب إلى المسلخ، يعمل فيها أشخاص من الهند وباكستان لا نعرف عنهم شيئاً، والكهرباء تنقطع دائماً عن البرادات، إلى درجة لا يمكن أحداً تحمّل رائحة الجثث المتحللة... لا يمكن وصف المشهد الدموي هناك».
هكذا، يظهر بحسب القوانين أن الطبيب الشرعي ليس مجرد تفصيل في طريق الوصول إلى العدالة، كما أن الطب الشرعي ليس ترفاً أو من كماليات التحقيق الجنائي. هو ركيزة يمكن أن تكشف حقيقة كان تغييبها سيلفّ حبل المشنقة حول عنق بريء، أو إبعاد السجن مثلاً عن مستحقه. لكن، مع ذلك، ومع علم المعنيين بأهمية دور هذا الطب، يكشف الواقع أن ما يُعمل به في المجال هو... «عدم شرعي».

بين الطب والأمن... «مافيا»

في ظل غياب الرقابة، ومع عدم وجود أي جهة تُعنى بمحاسبة الأطباء الشرعيين، نشأت علاقة من نوع خاص بين الأجهزة الأمنية، وتحديداً بين رؤساء المخافر، وهؤلاء الأطباء. فمثلاً، قبل مدّة، سُجّلت حالة وفاة لفتاة، وكان يتوقع أن يتصل رئيس المخفر بأقرب طبيب شرعي إليه، غير أن الأخير اتصل بطبيب آخر بعيد، تجمعه به علاقة شخصية، بل يمكن القول علاقة «مالية». جاء الطبيب وكشف على الجثة، بناءً على طلب الأهل، فطلب منهم مبلغ 200 دولار بدل أتعاب. أخذ المبلغ، وعند الباب أعطى نصفه إلى رئيس المخفر، ثم خرج مودعاً. عرف الطبيب القريب سكنياً من المخفر، فذهب إلى الضابط وعاتبه، غير أنه لم يحصل على نتيجة. يقول أحد هؤلاء الأطباء أن ثمة مخفراً في بيروت لم يتصل بي ولا مرة في حياتي، مع العلم بأني أقرب الأطباء إليه، وذلك «لعلم رجال الأمن فيه بأني لست من النوع الذي يصدر تقارير طبية غب الطلب وبحسب الدفع والرشوة». هذه الروايات، وغيرها الكثير، تجعل العارف فيها يحسب ألف حساب قبل أن يصدّق هؤلاء الأطباء، الذين يبقون، ولأمد غير معلوم، بلا جهة تراقبهم وتحاسبهم.