بالكاد، تستطيع إيجاد كرسيّ فارغ في قاعة مسرح دوار الشمس في محلّة «الطيونة». اكتظت الأماكن بوجوه كثيرة تدلّ على الإيمان بقضيتهم، لكنها وجوه بلا أسماء وأحياناً بأسماء وهمية. حتى الممر الصغير المفضي إلى القاعة امتلأ هو الآخر. هناك، في مسرح دوار الشمس، حيث أحيت جمعية «حلم» وداعموها اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية والتحول الجنسي، صار الزحام حدثاً، ينبئ بـ«تحسن»، تقول رنا، عضو الهيئة الإدارية في الجمعية.
مع ذلك، لم يلغ التحسّن الخوف. فمن ملأوا مسرح دوار الشمس، كانوا من «الخائفين» الذين تجرأوا على المجيء إلى هنا. أما الآخرون فلم يجرأوا على العبور في المحيط الذي أيقظه «شرف شباب المحلّة»، فبقي بعضهم بعيداً، فيما فضل البعض الآخر العودة من حيث أتى، بعدما فوجئوا بعدد من هؤلاء الشباب يقفون على مقربة من مدخل المسرح بأجساد شبه عارية وشعارات استلّوها من «الشرع» و«القانون» و«التقاليد» التي تحاكم على أمر ما سمّوه هكذا «خلافاً للطبيعة».
تحت، كانت حلم تطرح قضيتها بلا صخب. وفوق على الطريق، كان شباب «المحلّة» يتوعدون. كان بإمكان العين أن تحصي عددهم القليل جداً، لكنهم كانوا الأقوى. كانوا يجاهرون بفعل يعتقدون أنه «صائب». وليسوا وحدهم بل معهم، حسبما يعتقدون، «الله ومحيطنا وكل الناس». علي حمدان واحد من «جماعة الأسوياء»، يقول إنه خاف على «عرضه»، فجمع شباب المحلة أمام باب المسرح، قبل ساعة من بدء «حلم» عرضها لأفلام عن المثلية والتحول الجنسي من توقيع طلاب جامعات. كان اختيارهم للتوقيت مقصوداً. كانوا يريدون أن يعرفوا من هم «هيدول الأشكال». وعندما نسألهم ماذا لو كان أحد هؤلاء من منطقتهم؟ يجيب الشباب، وكأنهم متفقون مسبقاً على جوابهم «كنا دبحناه بلا ما نسمّي عليه».
لا شيء سيقنعهم بأن هؤلاء مثلهم ناس لهم حقوق وحريات. ثمة يقين بأنهم «ليسوا من بني آدم». يبرر علي الموسوي هذا الاستنتاج بقوله «آدم بيبوس حوا»، وما رآه هؤلاء «شاب عم يبوس شاب، شواذ بشواذ». وعندما وصلت الأمور إلى هنا، نزلوا «لأننا لا نقبل أن ترى زوجاتنا وبناتنا هذه الأفعال»، يقول الموسوي.
استفزّ هؤلاء الشباب القبلة التي قالوا بأنهم رأوها، كما استفزهم أمس الملصق «المنافي للأخلاق» عند باب المسرح. ولولا القوى الأمنية، يقولون، «لكنا نزلنا وحرقناهم تحت». لكن، هذه المرة، «سنبقى سلميين، وسنعتبر هذه المرة هي الأولى والأخيرة التي يحضر فيها هؤلاء إلى هنا، وإلا فالمرة الثانية سنقوم بما يجب»، يقول حمدان.
في الوقت الذي كان فيه علي حمدان يجاهر بكلماته وباسمه الثلاثي، كانت شابة حائرة في اختيار اسم لا يجلدها في محيطها. تعرف بأن «المحيط بعدو متل هيدول الشباب اللي برا». وهي التي مرّت قبل لحظات من أمامهم، وشتموها، ولم تجب بكلمة واحدة. دسّت وجهها بين يديها وفرت هاربة إلى الداخل، تماماً كما فعل الآخرون. لم يواجهوا «لأننا نتبنى قضية ولا نريد أن يخرج الخبر إلى الإعلام عن حصول تضارب بين شباب من المنطقة والمثليين والمثليات». غيرها، سيتصرف على الشاكلة نفسها. سيقنع بالبقاء بلا اسم، على خلاف علي الموسوي. والمجتمع يفرض ذلك، حتى القوى الأمنية هي على طريقة علي موسوي آخر. فما قاله علي جهاراً قاله عنصر قوى الأمن همساً «ليك، شكلو أبداً مش بني آدم». والقانون أيضاً قال ذلك في المادة 534 عقوبات التي تعاقب على كل «مجامعة خلافاً للطبيعة». فهل سأل القانونيون أنفسهم يوماً ماذا تعني عبارة «خلافاً للطبيعة» بدلاً من الاستناد الى أفكارهم المسبقة، وخصوصاً أنه من الناحية الطبية والاجتماعية والثقافية لم تعد المثلية في خانة المخالفة للطبيعة؟
الصبية التي اعتبرت أن ما قام به الشباب كان «طبيعياً» في مجتمع لم يحرز بعد التغيّر المطلوب، تعرف أن ما حصل أمس لم يولد بين ليلة وضحاها «فمنذ عام وحتى اليوم، حدث الكثير من التطورات، والقصة التي وصلت إلى الطيونة بدأت مع فحوص العار الشرجية التي انتصرنا فيها أول انتصار معنوي، ومن ثم حادثة الدكوانة التي مارس فيها رئيس البلدية سويّته على طريقته». ولعل الانتصار المطلوب هو في إيصال الرسالة بأن «المثليين هم شريحة من المجتمع اللبناني، ومش كل واحد قال ما بدنا وجودكم لازم نرضخ له»، تقول رنا، عضو الهيئة الإدارية في حلم. أما الانتصار الثاني، فهو في «الوعي وتعامل المثلي مع القانون بالشكل الذي يستطيع فيه مواجهة التهم الجاهزة». وهو الانتصار الذي يعوّل عليه المحامي نزار صاغية الذي حاضر أمس عن «المرافعة النموذجية لإسقاط المادة 534 من قانون العقوبات». فبرأي صاغية أن هذه المرافعة «هي الأسلوب الجديد في التعاطي مع موضوع المثليين والجواب الأفضل على الهوموفوبيا، وهي بمثابة نص يحمل كل الحجج التي يمكن أن يثيرها شخص يلاحق على أساس المادة 534».