بعد أسبوع كامل على احتفال «يوم القدس»، لا يزال الهمس المسيحي يلهج، متناولاً خطاب السيد حسن نصر الله في المناسبة. نقطتان اثنتان من الكلام المطروح لم يبلعهما الفهم المسيحي المباشر. أولاً، كيف فلسطين هي الأولوية، في مقابل أن لبنان هو الأولوية. وأن الأولوية اللبنانية تلك، إنما تعني تحديداً في الواقع والفعل، أولوية خير الإنسان في لبنان، وأولوية رفاهه وحياته الفضلى وسعيه إلى السعادة، كما يحس هو سعادته تلك ويحياها... ثانياً، لماذا هذا الكلام المذهبي الشيعي، بدل كلام المقاومة، كهوية إنسانية جامعة؟ تطول لائحة ردود التلاوين المسيحية المستغربة كلام نصر الله. وهي تستحق التوقف عندها والحوار. وأول الحوار في هذا المجال سؤال: هل للبنان، كأولوية مطلقة لا أولوية سواها، علاقة ما بما يحصل جنوب هذا البلد؟ هل تتأثر هذه الأولوية أو تفاعل مع ما يحصل في موضوع فلسطين؟ قد يعتقد البعض أن مزارع شبعا اختراع لمجرد إبقاء ذريعة الأمر الواقع. وقد يعتقد بعض آخر أن مثلث فريدريك هوف المتنازع عليه بحراً هو «مسمار جحا» آخر، ابتكره جبران باسيل لتسويغ «تفاهم ميشال عون». وقد يعتقد بعض ثالث، أنه حتى في حال صحة تلك «الذرائع الاحتلالية للمقاومة»، تظل المقاومة بأساليب السياسة والدبلوماسية أكثر فاعلية وأفضل تناسباً مع قدرات لبنان وإمكاناته واستعداد ناسه لدفع الأثمان والتضحيات.
قد يكون كل ذلك صحيحاً. لا شبعا ولا نزاع غاز ولا أسرى ولا ألغام ولا سيادة ماء وأجواء ولا تناقض نظامين ومجتمعين ودورين ومصالح ولا أي من كل تلك يربط لبنان بفلسطين. يمكن أي «مسيحي سياسي» أن يُسقط كل ذلك من حساباته. لكن، ماذا عن علاقة كل ما يحصل حولنا، بتلك الفلسطين بالذات؟ هل لاحظ صاحب «الهوية المسيحية السياسية» أنّ ثمة خيطاً واضحاً يربط بين كل ما يحصل في المنطقة، منذ وقّع أوباما مذكرته السرية تلك في 28 آب 2010، معلناً بداية حريق منطقتنا، قبل أسابيع قليلة على إحراق البوعزيزي التونسي نفسه؟ هل فهم ما يحصل على طول الجبهة الفلسطينية، وفي داخلها بشكل متزامن؟ ما معنى أن تتهاوى مصر مثلاً، من انهيار إلى انهيار أكثر عمقاً؟ ما معنى أن تسقط قاطرة الدول العربية وأمّ الجبهات الفلسطينية، من «مصر كامب دايفيد» مع حسني مبارك، إلى مصر «بيريز الصديق العزيز العظيم» والاتفاق الإسلاموي الإسرائيلي على قمع المقاومة الحمساوية بالذات مع محمد مرسي في تشرين الثاني الماضي، لتنتهي اليوم إلى مصر النزاع الداخلي المتمادي، أو النار البلدية المستدامة، من قلب سيناء بالذات؟
وليكمل «المسيحي السياسي» مسحه الجغرافي: الأردن لا لزوم للتوقف عنده. فذكرى العبور الإلزامي في مطاره، كمطلب إسرائيلي «موسادي»، يوم كان مطار بيروت محاصراً في حرب تموز، أبلغ تعبيراً من استذكار وادي عربة وكل وديان مملكة عبد الله الأول وزمن الإنكليز. فيما العراق نهب لفتنة لن تنتهي إلا بالاندثار، ما دام هناك كربلاء. كان لا يزال حول فلسطين سوريا. بكل غرائب تلك السوريا وعجائب موقفها طوال 40 عاماً. أما الآن، فأيام قليلة تفصلنا ربما عن قيام خمس حكومات سورية في سوريا تلك. واحدة للنظام، وأخرى للمعارضة ـــ فرع السعودية، برئاسة خليفة هيتو، الذي نسوا تسميته، كما نسوا اسم سلفه أصلاً. وحكومة ثالثة للكرد، أو «الفلسطينيين الجدد» في النظام العالمي الجديد الزاحل شرقاً مع أولوية واشنطن الصينية. أما الحكومتان السوريتان الرابعة والخامسة فلفصيلين إسلاميين جهاديين سنيين شقيقين: واحدة لجبهة النصرة، وأخرى لدولة العراق الإسلامية. كأنهما تكرار لانقسام حزب البعث الشقيق على ضفتي الأنبار، منذ اسسه مسيحي سابق اسمه ميشال عفلق، قبل أن يستسلم أو يؤسلم...
المهم أن سوريا، آخر محيط فلسطيني «سليم سوي»، تتجه إلى استعادة زمن الانتداب. يومها أيضاً بدأت خمس دول. قبل أن تتحد، لتتحول بوحدتها علة وجود لهذا اللبنان الذي يدعي المسيحيون اختراعه مذ ذاك. بعد سقوط سوريا تصير الطريق سالكة مفتوحة. جامعة الدول العربية وقعت بالبصم على قرار قبول تبادل الأراضي العالقة في فلسطين، في 29 نيسان الماضي في الدوحة. وقيل إن توقيعها هذا كان آخر مهمة أميركية إسرائيلية مفروضة على قيادة تلك «الجزيرة» العظمى. دمغوا بجباههم عار بيع فلسطين، ثم قيل لهم: ارحلوا مع السلامة... هكذا، بعد مصر والأردن والعراق وسوريا وتوقيع الجامعة، بدا أبو مازن مغتبطاً حتى الحبور، وهو يحدثنا في 4 تموز الماضي في ذلك الفندق البيروتي: حاوروا الإسرائيليين، نصحنا، فبينهم ناس جيدون!
هو أبو مازن نفسه الذي تنازل عن عودته إلى مسقط رأسه في صفد. فماذا يعتقد «المسيحيون السياسيون» في مصير نصف مليون فلسطيني على أرض «لبنان» الذي يعتبرونه أولوية مطلقة؟ وماذا عنهم في ظل وجود مليون لاجئ سوري أيضاً، من سوريا التي كانت ذات يوم دولة؟
تبقى هوية حسن نصر الله الشيعية! ماذا لو كان يوجه بها رسالة إلى واشنطن، مفادها: إذا كنتم قد اتفقتم مع «جماعة» ما في المنطقة على تطويبها لها بالكامل، فنحن غير معنيين باتفاقكم، وسنقاومه ونقاومكم. هل تكون شيعية حسن نصر الله عندها آخر ضمانة للتعددية الدينية عندنا؟ وهل تكون عباءته آخر عباءة لشراكة تلك التعددية في السلطة، وبالتالي في الحياة؟
تريدون لبنان ـــ كما تريدونه ـــ أولوية؟ أتركوا إذن حسن نصر الله في أولوياته، أولى للجميع وأبقى.