شيئاً فشيئاً بدأت تتضح الأبعاد الحقيقية الكامنة وراء أزمتي بلديتي طرابلس والميناء. أزمة الأولى تصيبها بالشلل، وأزمة الثانية تضعها أمام مصير مجهول. لماذا؟ من يضحي بهاتين البلديتين المهمتين؟ ولأي مصالح؟ البحث عن الأجوبة يوصل الى أن ما يحكى عن خلافات سياسية وشخصية داخل مجلسي البلديتين ليس سوى واجهة لحجب الأسباب الحقيقية. فالأزمتان تقف وراءهما مصالح أصحاب الرساميل الذين يريدون إمرار مشاريع عقارية لهم.
أحد أبرز هذه المشاريع، هو مشروع ردم البحر عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس بالقرب من الملعب الأولمبي (كشفت عنه «الأخبار» في 12/12/2012)، بمساحة تصل إلى مليون متر مربع تقريباً، بهدف إقامة مشاريع استثمارية ومنتجعات سياحية، بتكلفة تصل إلى نحو 600 مليون دولار.
بعد الكشف عنه، قوبل هذا المشروع باعتراض شعبي واسع، لأنه يقضي على مساحة واسعة من المتنفّس البحري الوحيد لأهالي المدينتين وجوارهما، وتحرّك ناشطون وناشطات من حركة «مشاع» لاسترداد الأملاك العامة ومنظمات مدنية وبيئية لإجهاضه، كونه يقوم على منطق الربح «الريعي» تحت غطاء تنفيذ مشاريع استثمارية وتنموية.
هذا المشروع رفضته غالبية أعضاء المجلسين البلديين في طرابلس والميناء. وجاء الرفض مدعماً بالحيثيات القانونيةً، بعدما جدد عضو بلدية الميناء حالياً ورئيسها السابق عبد القادر علم الدين تأكيده لـ«الأخبار» أن «فكرة المشروع مخالفة للقانون لأن مرسوماً صدر عن مجلس الوزراء عام 2006 رقمه 16/353، يتعلق بالمخطط التوجيهي للميناء، يمنع ردم البحر نهائياً، وأن هناك قرارات مماثلة صادرة عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني أيام كان الوزير محمد الصفدي وزيراً للأشغال العامّة والنقل».
الاحتجاج الواسع على المشروع جعل أصحابه يضطرون الى وضعه في الأدراج مؤقتاً، بانتظار فرصة أخرى سانحة له، وهم لم يتأخرّوا في ذلك طويلاً، فمنذ أشهر قليلة طرح هذا المشروع للتصويت عليه في إحدى جلسات بلدية طرابلس، لكن حظه في الفشل كان مثل حظه عندما طرح أول مرة قبل أكثر من سنة ونصف، مع فارق أنه في المرّة الأولى رفضته غالبية الأعضاء، ولكنه سقط في المرة الثانية بفارق صوت واحد فقط!
سقوط مشروع ردم البحر في بلدية طرابلس قابله سقوط مماثل في بلدية الميناء، حيث تشترك البلديتان في الواجهة البحرية في المنطقة المزمع تنفيذ مشروع ردم البحر فيها، بمعدل الثلثين تقريباً يقع ضمن نطاق بلدية طرابلس، أما الثلث الباقي فيقع ضمن نطاق بلدية الميناء، والموافقة على المشروع ككل تتطلب موافقة المجلسين البلديين معاً.
بعد رفض مجلسي بلديتي طرابلس والميناء إمرار مشروع ردم البحر كما طرح عليهما، دخل المجلسان البلديان في نفق الشلل والتعطيل، بالتزامن مع موعد انتصاف ولاية رئيسي البلديتين نادر غزال ومحمد عيسى، ما فسره متابعون بأنه عملية تهدف إلى حلّ البلديتين، إنْ أمكن، ووضعهما معاً أو إحداهما بعهدة محافظ الشمال، بما يُسهّل على أصحاب المشروع لاحقاً، حسب رأيهم، تأمين «موافقة» رسمية على المشروع، تلحظ رفع عامل الاستثمار وسواه.
وللمفارقة، فإن المساهمين في المشروع، ومعظمهم من طرابلس والميناء، هم من أصحاب رؤوس الأموال الذين تربطهم علاقات وثيقة بقوى سياسية نافذة ومؤثرة في السلطة، محسوبة على فريقي 8 و14 آذار والوسطيين معاً، بما يؤكد أن مصالح رأس المال تجمع حتى بين المتحاربين!
ومن باب التذكير فقط، فإن أبرز المساهمين في مشروع ردم البحر في طرابلس والميناء هم: النائب روبير فاضل (مُقرّب من الرئيسين سعد الحريري ونجيب ميقاتي)، إلياس أيوب، سعيد حلاب، يوسف فتال، سامر حلاب (مقرّب من الرئيس نجيب ميقاتي)، وليد الحجة (شريك للرئيس فؤاد السنيورة في عدة مشاريع)، طلال عكليس، محمد سليمان، أنس الشعار (نجل المفتي مالك الشعار)، سليم زعني، حسام قبيطر (عُيّن رئيساً لمجلس إدارة معرض رشيد كرامي الدولي، ومقرب من الرئيس عمر كرامي والوزير محمد الصفدي)، عمر حلاب، توفيق دبوسي (أحد المرشحين لرئاسة غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس) وزياد منلا.
هنا لا بد من الرجوع بالذاكرة إلى الوراء 3 سنوات أو أكثر تقريباً، لاستعادة كيف أن القوى السياسية في طرابلس والميناء، على تناقضها، قد توافقت على «إيصال» مجلسين بلديين «توافقيين» إلى بلديتي طرابلس والميناء، في انتخابات 2010 التي بدت كأنها «حفلة» تعيين أكثر منها عملية انتخاب تنافسية، تحت حجة أن هذه القوى لا تريد خوض «معركة» انتخابية في المدينتين الشماليتين، ويريدون تجنيبهما تداعياتها.
مع مرور الوقت، تبين أن هذا «الحرص» من قبل القوى السياسية عامذاك لم يكن بدافع الحرص على طرابلس والميناء، بل كان حرصاً على مصالحهم، وأنهم قسّموا «كعكة» هذين المجلسين البلديين بينهم، كما وزّعوا حصص مشروع ردم البحر، وأن القطبة المخفية لذلك التوافق السياسي المزعوم كانت في هذه النقطة تحديداً، إذ في مقابل تأمين المصالح فإن كل الخلافات الأخرى قابلة للتفاوض وحتى للإلغاء. كانت القوى السياسية تنتظر أن يوقّع المجلسان البلديان «عالعمياني» على مشروع ردم البحر، وأن يبصما على إقامة «سوليدير» ثانية في عاصمة الشمال، تحتل الأملاك العامّة، كما الخاصة، من أجل تأمين مصالحها تحت حجّة توفير فرص عمل لأبناء الشمال، ولكن ذلك لم يحصل، ما جعلها تنفض يديها بشكل أو بآخر من المجلسين البلديين، في وقت كانت فيه هذه القوى تحارب أصحاب البسطات الفقراء على كورنيش الميناء، وتطالب بإزالتها سريعاً تحت حجة أنها «عشوائية وغير مرخصة»، هذه القوى نفسها تشارك باحتلال الأملاك العامّة البحرية على طول الشاطئ اللبناني، وتسعى بكل جهدها الى تسويتها وتكريس حقوق خاصة عليها رغماً عن كل اللبنانيين.