انتشار وسائل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لم يحطّم بعد الثقافة السائدة في المجتمع اللبناني. سيفعل ذلك يوماً ما. ولكن في الانتظار لا يزال ذاك الشاب الذي يحمل بين يديه أحدث هاتف خلوي ذكي أو «آي باد» ذكورياً، وكذلك تبقى تلك الفتاة محبّة للتملك. فذاك وتلك، كالكثيرين، يضيعان في زحمة التطور السريع، ويضيعان في مشكلات تهدد الحياة الأسرية.
«يا أنا يا الواتس آب بحياتك»، عبارة تتكرر في الآونة الاخيرة بين الازواج، على اثر تزايد المشاكل بينهم جراء استخدام شبكات التواصل الاجتماعي. أدى ذلك الى تزايد حالات طلب الطلاق بنسبة تفوق عدد عقود الزواج الجديدة، حسب ما أكده أكثر من كاتب في المحاكم الشرعية في البقاع. هؤلاء يعتقدون أن السبب يكمن في فشل الزوجين في مواكبة الحداثة وتكنولوجيا الاتصالات.
تطلّق سمير من زوجته بعدما فشلت المحكمة الشرعية في التوفيق بينهما. لهما طفل في عمر ثلاث سنوات، هو ضحية انفصالهما، لا يراه والده إلا مرة واحدة في الشهر. يبدو من حديث سمير أن ذكورية حادّة تسيطر عليه، إذ يعبّر عن اقتناع واضح بأن ما يحق له لا يحق لزوجته، «أليس الرجال قوامين على النساء؟». يروي سمير أن زوجته طلبت الطلاق لأنه رفض أن يعطيها كلمة السر لهاتفه، «أقامت الدنيا ولم تقعدها»، حملت «الصبي» في منتصف الليل وذهبت الى بيت أهلها، تاركة له رسالة «إما أنا أو الواتس آب تبعك»، بعدها لم تنفع جميع الوساطات في عودتها، فهي مقتنعة بأن هناك أموراً تجري من خلفها، وأن زوجها لا يتفرغ لها ويفضّل أن يحافظ على صداقاته بعيداً عنها.
حالة سمير إن اختلفت بالشكل مع حالات العشرات، فلا تختلف كثيراً في المضمون؛ فسهام غادرت منزلها الزوجي تاركة ثلاثة أولاد، أصغرهم ابن سنة وأكبرهم في عمر 5 سنوات، السبب عبارة دوّنتها على صفحتها على «فايسبوك»، كانت «الشعرة» التي قصمت حياتها الزوجية والاسرية. عبارة وجدانية عابرة قد يرددها جميع المتزوجين: «دخل الملل من باب حياتنا، فأخرج الحب من الباب الآخر». لم تنفع جميع المبررات التي حاولت من خلالها أن تتخطى المشكلة، إذ أصرّ زوجها على أنها تقصد من عبارتها «أنها تقيم حيث لا تريد، وحيث لا حبيب لها». تقول إنه «يغار من الفايس بوك» و«كانت لديه شكوك». تطورت المشكلة بينهما وهي لم تعد قادرة على تحمّل عباراته التخوينية. على هذا الأساس تركت منزلها، ولم تستمر المصالحة التي فرضتها المحكمة أكثر من شهر، قالت: «قضيناها مثل الإخوة... فاتفقنا على الافتراق والطلاق».
تقف ناهد (27 سنة) أمام قاضي المحكمة الشرعية في بر الياس في البقاع الأوسط، تشرح له أسباب خلافها مع زوجها. أنصت إليها القاضي وهي تضع المسؤولية كاملة على زوجها، لكونه «شكاكاً»، كما وصفته، فوقعت «الخناقة» بينهما لتغادر منزلها الى ذويها. السبب، كما تقول، انه لا يريدها أن تستعمل الهاتف، تعلو نبرة صوتها: «التلفون مش جديد بحياتي، وهو تعرف إليّ أصلاً عبر الفايسبوك، وكنا نتواصل ليل نهار، شو عدا ما بدا ما بعرف»! كيف لها أن تعرف؟ هل خاف من أن تتعرف إلى غيره بالوسيلة نفسها؟ تهاوت علاقتهما من الشك والريبة الى أن خيّرها بينه وبين الهاتف، حسب ما أشارت للقاضي، و«أنا ما بقدر أعيش بلا التلفون، هو كل وقتو بالشغل». القاضي لم يفهم المشكلة أيضاً. ابتسم وقال لها: «فيكي تقعدي بلا ابنك، وبلا زوجك الذي يحبك؟». اعتقد أنه بذلك يصلح «ذات البين»، ولكنه في الواقع كان يضع اللوم عليها. كان يخيّرها أيضاً بين ابنها وزوجها وبين الهاتف والفايسبوك! بل ذهب بقصده الى أبعد من ذلك. بدا كأنه يوافق الزوج على أنها «تعطي وقتها كله لشبكات التواصل الاجتماعي، وتتناسى واجباتها المنزلية والزوجية». إلا أن القاضي لم يتصرّف بالطريقة نفسها مع الزوج، إذ استمع إليه بعدما طلب من زوجته الخروج من القاعة. عبس القاضي وقال له: «مش عيب عليك رجّال تقارن بينك وبين التلفون». اشتكى الزوج من أن زوجته تمضي أوقاتها في الدردشة على الـ«واتس آب». في رأيه هو سبب «البلوة»، فقد فُقد الحوار والنقاش، «لا طبيخ ولا غسيل»، همس القاضي للزوج بأن مسؤوليته هي كيف يقنع زوجته ويجعلها قريبة منه، وأن يحاول إخراجها من الوضع النفسي والاجتماعي الذي تعيشه. نصحه بالاهتمام أكثر ببيته، «وما تحسّس عيلتك إنو الشغل أهم منها». نادى القاضي على الزوجة، طلب منهما أن يتصالحا. بعد جملة من التوبيخات والتحذيرات والمواعظ في خصوص الأسرة، توجه إليهما قائلاً «الزواج نعمة، والنعمة لا تنقلب نقمة إلا بمعصية أحد الطرفين أو كليهما».
يعتقد القاضي الشرعي الشيخ عبد الرحمن شرقية أن تكنولوجيا الاتصالات تزيد من المشكلات الزوجية، وقد سبّبت طلاقاً في العديد من الأسر، ما يعزز الحاجة الى التربية السليمة، بدءاً من البيوت الى المدرسة. يدرك هذا الشيخ أن القمع لا يأتي بنتيجة بل يزيد الأمور سوءاً. إلا أن الشيخ شرقية يرى أن التطور في مجالات الاتصال شجع الكثير من الرجال والنساء على الابتعاد عن تحمّل المسؤولية لإشباع رغبات نفسية وجسدية خفية.
ليس مستغرباً أن يقف رجال الدين حرّاساً للثقافة السائدة، إذ يجزم الشيخ شرقية، الذي ينظر في دعاوى طلاق عدّة، بأن الطلاق هو نتيجة «التسيّب الخلقي وعدم القدرة على مجاراة الغرب لاختلاف البيئة والدين». ويلفت الى أن المشاكل التي خلفتها ثورة الاتصالات، بدءاً من التصوير والتحوير في الصور، وصولاً الى التعري وتبادل الصور الفاضحة بين الشاب والفتاة، أدت الى اختلاف الناس في مفهوم الأخلاق والفضيلة، ما أوقع الشباب في حيرة في التقاليد من جهة والدين من جهة ومحاكاة الآخرين من جهة ثالثة. لذا فإن أي انتصار لجهة يحدث خللاً لعدم التوازن والوسطية»، لذلك «لزام علينا أن نعرض الصلح مراراً وتكراراً، وألا نبتّ الفراق انطلاقاً من أن أبغض الحلال عند الله هو الطلاق»، لذا يرى الشيخ شرقية أن دور القضاء الشرعي هو محاصرة الخطأ ومدّ يد العون لكلا الطرفين، موضحاً أن هناك المئات من الدعاوى تحمل الصلح ولا يجري التعاطي معها بأحكام قاطعة، وذلك يكون حسب شخصية القاضي في العمل. نعتمد قول الله تعالى «الصلح خير» ونمشي على مبدأ «صلح خاسر خير من قضية رابحة».