لم تكترث تيغتيس تمار لطريقة موتها. كانت، فقط، تستعجل الرحيل إلى السماء. تيغتيس، الفتاة الإثيوبية التي لم تكمل عامها الأول بعد في لبنان، خططت لـ«انتحارها» بطريقة لا يجرؤ كثيرون على فعلها. وقفت عند حافة النافذة في الطبقة السادسة وهوت كالطائر، مفضّلة التشظي على البقاء في منزل صاحبة العمل «التي كانت تعاملني كالحيوان». لكنها، لم تمت. بقي انتحارها محاولة. وبقيت هي على قيد الحياة بلا جدوى. فأم الطفلين، التي هربت من عنف جسدي ولفظي لاحقها طيلة 6 أشهر، تنام اليوم في مستشفى الكرنتينا منذ شهر بسبب كسرٍ «خطيرٍ» في ظهرها وقدمها، بحسب الأطباء الذين يتابعون حالتها. ومن المفترض أن تستمر على هذه الحال شهرين وربما لأشهر، بانتظار أن تصبح قادرة على العودة... إلى بلدها. فترة، لن يكون بمقدورها ممارسة حياتها الطبيعية، وهي لم تكن تمارسها اصلا في ظل ظروف العمل الجائرة الى حد الاستعباد.
وبالانتظار، لن تمارس تيغيتس حياتها الطبيعية. هذا خبر مؤسف. لكنه، ليس المؤسف الوحيد. فثمة ما هو أسوأ، وهو التعاطي الأمني مع محاولة انتحار تيغيتس الذي كانت شبيهاً بتلك الطريقة التي تعاطت بها صاحبة عملها مع حياتها. فعندما رمت تيغيتس بنفسها من شرفة المنزل الذي تعمل فيه واستقرت في الطبقة الأولى، حملها الجيران إلى المستشفى. هناك، وبرغم إبلاغ الإدارة مخفر الدرك القريب منها بما حصل، إلا أن أحداً لم يفتح تحقيقاً في الحادث. لم يكترثوا لها، بعدما عرفوا بهويتها. وهذا يحصل غالباً في جميع محاولات انتحار العاملات الأجنبيات «حيث يقفل الملف بمجرد ثبوت الموت»، يقول المحامي نزار صاغية.
بعد مضي شهر، كرّر المستشفى التبليغ. مع ذلك، بقيت الآذان صماء. وهذه مخالفة. لم يفتح تحقيق برغم التكرار، ولم تسأل الشابة ما الذي دفعها لتقرر موتها.
بلاغان، بلا حراك. ربما، كان يفترض أن يحصل الموت كي يتحرك هؤلاء. كي يفتحوا تحقيقاً سرعان ما يقفلونه بثبوت الانتحار. ولكن، هل تعرفون ما الذي يحصل في غالبية تلك التحقيقات؟ ينتصر نظام الكفالة غير القانوني على الجريمة التي كان هذا النظام الشائن سببها في معظم الحالات. والدليل «أننا لم نر كفيلاً واحداً يسجن بسبب موت عاملة»، تقول موهانا إسحاق، المحامية في منظمة «كفى عنف واستغلال». ويمكنكم استرجاع موت أليشا في دير الصليب، التي لم يحتجز كفيلها لحظة واحدة.
وكان يمكن أن يحصل مع تيغيتس ما حصل مع السابقات. أن تموت هي وتكمل صاحبة عملها حياتها الطبيعية. ولكن، «مادة قانونية» قلبت المعادلة، مصحوبة بجهد مدني. ومن هنا، انطلقت «كفى»، عندما رفعت شكوى جزائية مباشرة إلى النيابة العامة التمييزية، تستند فيها إلى المادة القانونية التي تقول «من حمل شخصاً على الانتحار يعاقب». وهذه «ثابتة هنا»، تقول اسحاق. تلك الأشياء التي اختصرتها تيغيتس بكلمة «حيوان». تيغيتس كانت «حيواناً» في ذلك المنزل: تعمل بلا راحة ولا عطلة أسبوعية ولا راتب. تحرق بأعقاب السجائر بلا سبب.
كل هذه الأشياء، دفعت «كفى» إلى الإدعاء على صاحبة العمل «لأنها دفعت الشابة بتصرفاتها إلى الانتحار». ثمة شيء آخر استندت اليه «كفى» «وهو قصة قمر التي هربت من المنزل ذاته بسبب التعنيف»، تقول اسحاق.
وبغض النظر عما يمكن أن تحصّله تلك الشابة من نظام الكفالة، إلا أن «هذه الشكوى تعدّ الأولى، إذ لم يسبق أن رفعت شكوى في هذا الإطار»، يقول صاغية. وهذه أولى الإيجابيات «أن ندفع المحقق للأخذ بعين الاعتبار الشروط التي دفعت العاملة للقيام بفعل الانتحار، شروط العمل مثلاً». وهذا «لا يحصل إلا بجهد اجتماعي»، يتابع صاغية. وهو ما تحاول انتهاجه «كفى» في دعواها «التي تلفت النظر لأمر مهم جداً هو الدافع للانتحار». فهنا، يجب أن تكون الدعوى «مدخلاً لفتح ملف الاستغلال من جوانبه كافة من خلال محاولة انتحار امرأة». وهذه نقطة جديرة «بالنضال».
لكن، كل هذه الجهود قد تبقى يتيمة، ما لم يتم العمل على كافة الصعد. وقد يكون دور وزارة العمل أساسياً في هذا الإطار، في اتخاذ «إجراءات بحق صاحب العمل المرتكب». وهنا، قد يصبح السؤال ملحاً عن «اللائحة السوداء» (BLACK LIST) التي يفترض أن تكون من «التحصيل الحاصل» في الوزارة. تلك اللائحة التي لا وجود لها إلا بالاسم هناك. ولو كانت موجودة «لكان يتوجب على وزارة العمل الاطلاع على التحقيقات والأحكام واتخاذ اجراءات على أساسها بحق أصحاب عمل، كمنعهم من استقدام عمال إذا ما ثبت ارتكابهم جرائم ومخالفات». لكنها ليست موجودة، والصعوبة في إيجادها توازي إقناع الوزارة «بطبيعة الحالات التي ستوضع على اللائحة السوداء»، يتابع. وقد يحتاج الأمر لنضال على شاكلة النضال الذي يحتاج إليه إلغاء نظام الكفالة.