ربما يبدو الأمر عند البعض من قبيل الترف. بلد تضربه السيارات المفخخة، ثم الانتحاريون، فتتناثر أشلاء مواطنيه على الطرقات، ومع ذلك يبقى فيه من يتكلم عن حقوق الإنسان والمرأة. بالتأكيد يمكن تفهّم من يستغرب هذه الأضداد على مساحة الوطن الصغير. لكن في النهاية لا بد من لفت انتباه هؤلاء إلى أن العبوات إن كانت تفتك بأجساد البعض، إنما تفعل ذلك مرّة واحدة، فيما بعض النساء يُفتك بأرواحهن جرّاء عنف أسري، يومياً، مراراً وتكراراً، إلى حدّ تمني بعضهن الموت وهن غارقات في الصمت. من هنا أطلقت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، بالتعاون مع منظمة «كفى عنف واستغلال»، حملة الـ«16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة لعام 2013». انطلقت الحملة، أمس، من مقر المديرية في منطقة الأشرفية، آخذة عنوان «ورانا مهمّة».

النجدة يا أمن

تطل سيدة، ضمن فيلم قصير، لتتحدث عن تجربتها بين العنف المنزلي وقوى الأمن. بصوت حزين، تقول: «كان زوجي يضربني يومياً، لم أجد من يضع له حدّاً، إلى أن قررت مرّة الذهاب إلى أقرب مخفر. كانت آثار الضرب بادية على وجهي، أخبرت الدركي بما حصل معي، فقال لي: نحن لا نتدخّل بين امرأة وزوجها، اذهبي، وإن شئتِ فخذي حقّكِ بيدكِ». ربما يقول البعض إن بإمكان سيّدة كهذه أن تهرب بعيداً، أو تعود إلى أهلها، لكن يفوتهم أن بعضهن لا يجدن مكاناً آخر للجوء إليه. لا حاجة إلى الاستفاضة كثيراً في الحديث عن «العقد» الموروثة تجاه المرأة. تلك السيّدة، بعد ما يشبه طردها من المخفر، عادت إلى منزلها الزوجي. عاد الضرب والتعنيف من جديد. قررت أن تقصد مرّة، بعد أذى مبرح، مخفراً آخر. هنا كانت المفاجأة: «كان الدركي هذه المرة خلوقاً ومهذباً، أجلسني في مكتب وقدّم لي الماء، حتى إنه سألني إن كان مكيّف التبريد يزعجني. للأسف أقولها شعرت أنه غير لبناني». أخيراً أحالها الدركي على «منظمة كفى» وبدأت رحلة جديدة.

الأمن على السمع

في الأصل، الخط الساخن 112 في متناول جميع المواطنين، ولكن قوى الأمن توجّهت أمس إلى النساء في لبنان، تحديداً، للاتصال على هذا الرقم لطلب النجدة عند تعرّضهن للعنف الاسري. المدير العام لقوى الأمن الداخلي بالوكالة إبراهيم بصبوص، والمقدم جوزف مسلّم، وسواهما من المتكلمين، وعدوا بأن المتصلة ستجد من يسمعها بكل رحابة صدر، بل أكثر من ذلك، سيُرسلون دورية إن احتاج الأمر إلى مكانها لإنقاذها. بالنسبة إلى قوى الأمن، بصفتها ضابطة عدلية، ضرب الزوج لزوجته، أو الأخ لأخته، ليس مسألة عائلية عادية، بل «جرم يُعاقب عليه القانون». طبعاً قانون العنف الأسري لم يُقرّ بعد، ما زال عالقاً في أدراج مجلس النواب. ولكن اليوم، ووفقاً للقوانين المعمول بها، يمكن تجريم المعتدي ومعاقبته.
لكن، في المقابل، كان لافتاً عدم تخصيص خط ساخن للعنف الأسري ضد المرأة، على غرار الكثير من الخطوط التي خُصّصت لغايات ربما أقل أهمية؟ تقول مديرة «كفى» زويا روحانا: «نعم هذا صحيح، لا بد من تخصيص خط كهذا، وسنلفت نظر المعنيين إلى ذلك، ولكن نحن ما زلنا في البداية، والمهم الآن أن ننطلق». يعلم الأمنيون، ومعهم الناشطون، أن الذين يجيبون على خط الطوارئ (112) يتلقون يومياً كمّاً هائلاً من الاتصالات حول مختلف أنواع المشاكل، وبالتالي قد لا يعيرون اهتماماً لاتصالات المعنفات، خاصة في ظل جرائم من «العيار الثقيل» التي تضرب لبنان حالياً. على كل حال، رفعت قوى الأمن الداخلي أمس شعارها: «إذا مهدّدي ما تتردّدي، اتصلي فينا ــ 112».

القضاء هنا أيضاً

كان لافتاً في حفل أمس حضور القاضي شربل أبو سمرا، ممثلاً النيابة العامة التمييزية، وكذلك النائبة العامة الاستئنافية في النبطية القاضية غادة بو كروم. تحدّث أبو سمرا عن وجوب اعتماد «الصرامة» في تطبيق المواد القانونية، خاصة في موضوع العنف ضد المرأة. ولفت إلى أن بعض المواد القانونية الحالية «مجحفة بحق من وقع عليه العنف». من تلك المواد على سبيل المثال المادة 489 والمادة 500 من قانون العقوبات. سأل: «ماذا يعني أن تكون العقوبة كذا وكذا على من وقع عليه العنف وهو دون السبع سنوات، ثم تتغير إن بلغ الثامنة. فما الفرق بين السابعة والثامنة؟». هذا نموذج عن الخلل في النصوص القانونية التي تطال المرأة، ولهذا ختم أبو سمرا كلمته قائلاً: «لقد سال حبر كثير في الحديث عن العنف والمرأة، ولكن في النهاية أقول: غيّروا ما في النفوس يتغيّر ما في النصوص».

أمن وحقوق إنسان

قبل أيام ذهب المقدم زياد قائدبيه، رئيس قسم حقوق الإنسان في مفتشية قوى الأمن، إلى العاصمة السويسرية (جنيف) في زيارة عمل. بعد إلقاء كلمته هناك، بين زملاء له من أجهزة أمنية عالمية، تقدّم منه ضابط كندي وسأله هل حقّاً لديكم في لبنان، في قوى الأمن، قسم لحقوق الإنسان؟ ذاك الكندي لا يرى لبنان إلا دولة من العالم الثالث. المقدّم اللبناني قائدبيه معروف في سلكه بأنه من «المتحمسين لحقوق الإنسان وحقوق المرأة تحديداً». كان أمس في حفل الأشرفية حاضراً. وفي حديث له مع «الأخبار» قال: «صدقني لو كان أي بلد يعاني ما نعانيه في لبنان لما كنت سمعت بعد بعبارة حقوق إنسان، ودفاع عن المرأة ومحاولة حمايتها من العنف المنزلي، ولهذا لا بد من الأمل رغم كل شيء. لدينا الإمكانات والطاقات ولا بد من تعزيز ثقافة حقوق المرأة». يُدرك قائدبيه جيداً أن رجل الأمن اللبناني، اليوم، الذي سيتسلم من المرأة شكواها من العنف، ربما يكون هو قد عنّف زوجته في اليوم نفسه، فـ«هذا صحيح، ولهذا أقول هي في المبدأ ثقافة، وشيئاً فشيئاً نشيعها ونعمّمها، ولا بد من البداية من مكان ما».

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad