عندما أصاب المخاض ليلى، لم يحملوها إلى مستشفى. تركوها تلد في «أرضها». هناك، في الغرفة المكتظة بسبعة عشر نفراً، وضعت الأم مولودها. كان مخاضها مؤلماً... وبلا خصوصية، مفتوح أمام عيون كثيرة. ولم يكن في يد الأم ـ التي «استشرست» في الطلب كي تلد في المكان الطبيعي ـ أية حيلة، فطلب كهذا في سجن للنساء في لبنان أقرب إلى الترف منه إلى الحق.
حدث ذلك في أحد سجون النساء في لبنان. وهو ليس استثناء، فقد يحدث مع أمهات أخريات، وسيحدث مع أطفالهن المولودين خلف القضبان، إذ لن يحصلوا من الدولة على أبسط احتياجاتهم الأساسية من حفاضات وملابس وحليب وطبابة، إلا إذا كانت الأم «مقتدرة مادياً». كل ذلك لا يمكن اعتباره أقسى المشاكل التي تعانيها السجينات في سجون النساء الأربع في لبنان، فثمة انتهاكات كثيرة للحقوق هناك تسقط فعل الإصلاح والتأهيل في تلك الأمكنة. والأمثلة كثيرة، ليس أقلها «عاراً» حرمان السجينة حقوقاً بسيطة لا يعوّل عليها، فماذا يعني مثلاً حرمان المرأة «الفوط الصحية»؟ فكم ستتعدى كلفتها لمرة واحدة في الشهر؟ وماذا يعني حرمانها الطعام الصحي إن كانت لا تملك الترف المادي؟ وماذا يعني حرمانها الفحوص الدورية والمعاينة السريرية، ولم تغيب خدمات الطبيب النسائي عن السجون والأدوية؟ ولم التمييز بين سجينة وأخرى في أحقية التواصل مع أولادها؟ وماذا عن الخصوصية في غرفة من أربعة أمتار تقطنها ست عشرة نزيلة في أسوأ تقدير، ولا يعزل فيها المرحاض عن المنامة وعن مكان الطعام؟
هذه الأسئلة ليست للترف. هي جزء بسيط من أسئلة أخرى كثيرة تتمحور في كلّيتها «حول الغياب الفاضح لأبسط حقوق السجينات في لبنان». هذا ما أشارت إليه المحامية منار زعيتر، أمس، في الوقفة التضامنية مع السجينات أمام قصر العدل التي نظمها التجمع الديموقراطي اللبناني ودار الأمل وكاريتاس وجمعية دياكونيا تحت عنوان «من حقهن العيش بكرامة»، لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
ما أشارت إليه زعيتر أمام القصر الذي لم يخرج منه متضامن واحد مع حق هؤلاء في «العيش بكرامة في السجون اللبنانية»، كانت قد خلصت إليه في نهاية تقرير عن «تقييم واقع سجون النساء في لبنان»، وقد صدر في جزأين عن فترتين زمنيتين ما بين آذار 2012 وآب الماضي. ولعلّ أبرز ما ركزت عليه زعيتر في واقع تلك الحقوق أن بعضها غائب كلياً، فيما البعض الآخر شبه غائب، فيما الحقوق التي تحصلها السجينة بالكاد تذكر. ولعلّ أبرز ما توصلت إليه زعيتر في تقريريها هو الدلالة على الفجوة القائمة بشكل كبير بين ما تنص عليه المعايير الدولية وواقع الحال في معظم السجون وضعف المقاربة الجندرية بما يتصل بالسياسات والممارسات لجهة ما يرتبط بقضايا الصحة الإنجابية والجنسية والنفسية للنساء الغائبة تماماً وبتأثيرات مشكلات السوق والتوقيف الاحتياطي والتقاضي على النساء. وهذا إن كان يدل على شيء، فهو يدلّ على أن الأحوال لم تتبدل في سجون النساء، اللهم باستثناء التغيير الأخير الذي تعوّل عليه مؤسسات المجتمع المدني والمعنيون بحقوق النساء، ومنها قرار مجلس الوزراء بنقل صلاحية إدارة الشؤون من وزارة الداخلية والبلديات إلى وزارة العدل، التي أنشأت مديرية للسجون. هذا القرار الذي يعول عليه التجمع النسائي، والذي بدأ العمل مع مديرية السجون على كيفية العمل على وضع خطة تتعلق بهيكلية السجون «وما الذي يجب أن تراعيه، إضافة إلى أننا نعمل على إمكانية إدخال بعض التعديلات على القانون الناظم للسجون، ومنها مراعاة الاحتياجات الصحية الخاصة بالنساء في ما يرتبط بالحق في الصحة والغذاء والنظافة الشخصية والتأهيل وإعادة الاندماج وتطوير إدارات السجون وتدريب العاملين على مقاربات حقوق الإنسان والنوع الاجتماعي (...)».
وبعيداً عن تلك الآمال المعقودة على التغيير من نظام «العسكرة» إلى النظام الآخر الذي لم يُعرَف له وجه بعد، لا تزال أحوال سجون النساء على حالها. ففي الشكل، سجون النساء ليست مهيأة لتكون سجوناً، باستثناء سجن طرابلس الذي خصص منذ بنائه ليكون سجناً. أما سجون بعبدا وزحلة وبيروت، فهي أبنية سكنية عادية حُوِّلت الى مكان لإقامة السجينات. أما في الداخل، فالوضع يتأرجح بين السيئ والسيئ جداً واللاإنساني، بحسب دراسة للجمعيات المدنية العاملة ضمن السجون. أما الحديث عن التقديمات، التي تتولى غالبيتها الجمعيات، فهذه الأخرى «منقوصة»؛ إذ تحتل الجمعيات ذات الطابع الديني المرتبة الأولى، فيما تغيب الجمعيات العاملة على الجوانب التربوية والترفيهية والثقافية. أما الموجودة منها، فلا تسد الحاجة، إذ تبين دراسة أجريت قبل 3 سنوات أنّ من بين 10 آلاف جمعية مسجلة في وزارة الداخلية، فقط «20 جمعية تعمل في سجون النساء، منها 10 جمعيات تقوم بنشاطات عابرة لمرة واحدة، إضافة إلى عدم وجود التنسيق بين هذه الجمعيات في السجون الأربعة».